توديع رمضان

الحمد لله، الحمد لله المتوحد بالعز والبقاء، الذي قضى على أهل هذه الدار بالزوال والفناء، ليدلنا بذلك على أن لكل نازل رحيلا وانتقالا، وأن لكل أجل كتابا،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهل علينا شهر رمضان ليفيض علينا فيه من الخير والإحسان، ويغفر لنا الذنوب ويضاعف لنا الأجور يوم الحساب، ثم حكم بانقضائه وانتقاله، فمن رابح فيه صار له شاهدا بالخير عند ربه، وشافعا لديه في تخليصه من عذاب قبره، ومن خاسر فيه قد ضيع أوقاته الثمينة ومواسمه العظيمة في اللهو واللغو والغفلة والإبتعاد عما ينقده وينجيه، ولم يعلم أن أول هذا الشهر رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق له مما يهلكه ويرديه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله حث على اغتنام الأوقات قبل الفوات، وأمر بالإستغفار من التقصي والهفوات،  صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا ما تعاقبت الشهور وتوالت السنوات، أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، هذا شهر رمضان قد آن رحيله، ولم يبق لنا إلا توديعه، فمن كان فيه محسنا فليحمد الله على ذلك، وليبشر بعظيم الثواب هنالك، ومن كان مسيئا فيه فليتب إلى الله توبة نصوحا، فإن الله يتوب على  من تاب وآمن وعمل صالحا، وليحسن الختام فإن الأعمال بالخواتم. أيها المسلم، يا من بنيت حياتك على الإستقامة في هذا الشهر المبارك دم على ذلك بقية حياتك، ولا تهدم ما بنيت لنفسك بالعودة إلى المعاصي والآثام، فتهلك وتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، يا من أعتقه ربه من النار وطهر قلبه من الأمراض والآثام والأوزار، إياك أن تعود إلى المعاصي فتسقط في المهالك وتبوء بالخسران وسوء الدار، يا من اعتاد حضور المساجد وعمارة بيوت الله بالطاعة والأذكار وأداء صلاة الجمعة والجماعة والتراويح والأوتار، واصل سعيك المبارك ولا تقلل صلتك بالمساجد فتشارك المنافقين وتكون من أصحاب النار الذين لا ياتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون، ولا تهجر المساجد وتنقطع عنها نهائيا فيختم الله على قلبك كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: “لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين”، يا من تعودت تلاوة القرآن في شهر رمضان داوم على تلاوته بقية الأيام فإنه ربيع القلوب ولا تقطع صلتك به فإنه حبل الله المتين، وهو روح من أمر الله وهدى ونور مبين وشفاء لما في الصدور، وحجتك يوم القيامة ويوم الحساب والنشور، فلا تعرض عنه بعد رمضان فإنه لا غنى لك عنه بحال من الأحوال، يا من اعتدت قيام الليل استمر في هذه المسيرة الطيبة الربانية، فاجعل لك من قيام الليل حظا ولو كان قليلا، ترفع فيه حوئجك إلى ربك وتتبتل إليه تبتيلا، وتكون من الذين قال الله تعالى فيهم :”ومن الليل فتهجد به نافلة  لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا”، وتكون مع المستغفرين بالأسحار المتعودين على الأذكار آناء الليل وأطراف النهار، يا من اعتدت الصيام في رمضان امض على هذه العادة الحميدة فإن الصيام لا يزال مشروعا في العام كله، فهناك أيام من السنة حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامها منها ستة أيام من شوال لقوله صلى الله عليه وسلم : “من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصوم الدهر”، فصم هذه الست في أول شوال أو في وسطه أو في آخره متتابعة أو متفرقة، ولا تعتقد أخي أنها واجبة، ومنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر لقوله صلى الله عليه وسلم :”صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهب وحر الصدر”، ومنها صيام عشر ذي الحجة خصوصا يوم عرفة لغير الحاج، ومنها أيضا صيام العشر الأول من شهر المحرم وخصوصا العاشر منه، وصيام الإثنين والخميس، كل هذه أيام يستحب صيامها لمن أراد الإستزادة من الفضل والخير، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، يا من تعودت في هذا الشهر المبارك بذل الصدقات والإحسان، واصل إحسانك في بقية الأيام، وتصدق فإن الله يجزي المتصدقين، وتحر في صدقتك ذوي الحاجات المتعففين عن ذل السؤال من الفقراء والأرامل والأيتام، وهكذا أيها المسلمون، إن انقضى شهر رمضان برحيله فإن عمل المؤمن لا ينقضي بانقضائه، ولا ينتهي بانتهائه، وإنما يبقى مستمرا إلى لقاء ربه، بانقضاء عمره وانتهاء أجله. نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية، وأن يجعلنا وإياكم من العتقاء من النار في هذا الشهر إن شاء الله، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، أمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له،  عباد الله من اتقى الله فاز برضى مولاه، ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون: لقد شرع لكم ربكم في ختام هذا الشهر المبارك عبادات تزيدكم من الله قربا ومن المؤمنين حبا، ومن النار بعدا، ومن الأخيار صحبة، شرع لكم زكاة الفطر وهي فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكبير والصغير والذكر والأنثى وعلى الغني والفقير والعبد والأجير، وهي زكاة للأبدان وطهرة للصائم من اللغو والرفث ومن كل ما يصدر عن الإنسان من صغائر الآثام، وهي شكر لله على إتمام الصيام وإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام تغنيهم عن ذل السؤال في يوم الإنتهاء من الصيام، يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوج وأولاد وآباء وخدم، ولا يلزم إخراجها عن الحمل الذي في البطن، ولا عمن مات في رمضان، ويخرجها المسلم في البلد الذي وافاه تمام الشهر فيه. وإن كان من يلزمه أن يفطر عنهم في بلد وهو في بلد آخر فإنه يخرج فطرتهم مع فطرته، كما يجوز أن يفوضهم في إخراجها عنه وعنهم في بلدهم، ومن لزمت غيره فطرته فأخرجها هو عن نفسه فلا بأس، ووقت إخراجها يبدأ بغروب شمس ليلة العيد ويستمر إلى صلاة العيد، لما رواه البخاري عن ابن عمر (ض) قال: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة”، وقال صلى الله عليه وسلم:”فرضت زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات”، ويجوز إخراجها  قبل يوم العيد بيوم أو بيومين، والمستحقون لها هم المستحقون للزكاة المفروضة في قوله تعالى :”إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل”، ومقدارها صاع من القمح أو الشعير أو الدقيق مما يقتات به أهل البلد، وهو الأفضل والأحسن عند العلماء، وهو ما كان عليه العمل عند السلف الصالح، ولا يجوز دفع القيمة إلا إذا كانت المصلحة تدعو إلى ذلك، ومقدارها هذه السنة كما حددها المجلس العلمي الأعلى هو 15 درها عن كل فرد،  كما شرع الله  الإكثار من التكبير عند إكمال الصيام بعد الإعلان عن العيد لقوله تعالى: “ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون”، وشرع  الله لكم صلاة العيد وهي من تمام ذكر الله وشكره على الإتمام وعتق أهل الكبائر من الصائمين، فيلحق فيه المذنبين بالمحسنين، وذوي الأخطار من الذنوب بالأبرار وتعطى فيه الجوائز للصائمين القائمين والمجدين المجتهدين الذين أخلصوا فيه العمل لله رب العالمين، روى الإمام الطبراني في الكبير عن سعد بن أوس الأنصاري عن أبيه (ض) قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فنادوا، اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بصيام النهار فصمتم وأمرتم بقيام الليل فقمتم وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. اللهم اجعلنا منهم، وممن قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن موعد صلاة العيد هذه السنة هو الساعة السابعة صباحا من يوم العيد، فبكروا في الذهاب للمصلى حتى تفوزوا بجوائزكم مع مراعات الآداب المتعلقة بيوم العيد من الذكر وإعلان الشكر، والحضور للخطبة بعد الصلاة، ولصلة الرحم والدعاء بالقبول. وأكثروا إخواني أخواتي من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين، اللهم صل على سيدنا محمد… الدعاء

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *