فضل النوافل، والعشر الأواخر من رمضان
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الفضل والإنعام مازال يوالي على عباده في هذا الشهر المبارك فضائل الصيام والقيام،وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،الملك القدوس السلام،وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام،وسلم تسليما كثير. فَـ ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ البقرة: 21.
أَمَّا بَعدُ،
أحبتي في الله ، قبل أن أسافر بكم إلى العشر الأواخر من رمضان وقبل أن استعرض عليكم احبتي في الله فضل هذه العشر الأواخر ، ارتأيت أن أقف وإياكم عند النوافل وأذكركم واذكر نفسي بأهميتها ، فمِن فَضلِ اللهِ عَلَينَا وَنَحنُ الخَطَّاؤُونَ المُقَصِّرُونَ، أَن يَسَّرَ لَنَا مَعَ مَا أَوجَبَ مِنَ الفَرَائِضِ المُتَحَتِّمَاتِ، نَوَافِلَ مِن جِنسِهَا وَسُنَنًا مُستَحَبَّاتٍ، تُكَمِّلُ نَقصَنَا، وَتُتِمُّ تَقصِيرَنَا، وَتَرفَأُ خَلَلَنَا، وَنَفرَحُ بها ” يَومَ يَنظُرُ المَرءُ مَا سَعَى ” يَومَ يَتَمَنَّى المُفَرِّطُ أَن يَعُودَ إِلى الدُّنيَا لِيَعمَلَ صَالِحًا، فَلا يُجَابَ إِلى هَذَا وَلا يُمَكَّنَ مِنهُ.
وتعرّف النّوافل بأنّها صلوات يؤدّيها المسلم وهي ليست مفروضةً عليه، وتقسم إلى سنن، ومستحبّات، وتطوّعات. وتجدر الإشارة إلى أنّ النوافل لا يسبقها أذانٌ أو إقامة وذلك حسبما ورد عن نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ويجوز للمسلم أن يصلّيها في أيّ وقت ما لم يكن هناك نهيٌ عن ذلك في السنّة النبويّة.
ولقد كَانَ السَّابِقُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَمَن بَعدَهُم مِنَ سَلَفِ الأُمَّةِ الصَّالِحِينَ، يَحرِصُونَ عَلَى النَّوَافِلِ كَمَا يَحرِصُونَ عَلَى الفَرَائِضِ، حَتى إِنَّهُ كَانَ يَكفِي أَحَدَهُم أَن يَعلَمَ أَنَّ النَّبيَّ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – أَمَرَ بِعَمَلٍ أَو سَنَّهُ بِقَولٍ أَو فِعلٍ، فَتَرَاهُ بَعدُ لا يُفَرِّطُ فِيهِ وَلا يَترُكُهُ، وَلا يَتَهَاوَنُ بِهِ وَلا يَدَعُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِعِلمِهِم وَيَقِينِهِم أَنَّ الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ وَالبَرَكَةَ كُلَّ البَرَكَةِ، في اتِّبَاعِهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – وَالسَّيرِ عَلَى هَديِهِ، وَتَتَبُّعِ مَا كَانَ يَحرِصُ عَلَيهِ وَالاقتِدَاءِ بِهِ، فَلَمَّا قَلَّ عِلمُ النَّاسِ بِدِينِهِم، وَانتَشَرَ فِيهِمُ الجَهلُ بِالسُّنَنِ، وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها، وَتَعَلَّقُوا بِزَخَارِفِهَا وَمَلَكَت قُلُوبَهُم شَهَوَاتُهَا، صَارَ أَحَدُهُم لا يَرفَعُ بِالسُّنَنِ رَأسًا، وَلا يُقِيمُ لِلنَّوَافِلِ وَزنًا، يَدخُلُ المَسجِدَ وَقَد فَاتَتهُ مِنَ الفَرِيضَةِ رَكَعَاتٌ، ثم يَقُومُ بَعدَ سَلامِ الإِمَامِ فَيَنقُرُ مَا فَاتَهُ نَقرَ الغُرَابِ، ثم لا يَكَادُ يُسَلِّمُ حتى يُطلِقَ لِسَاقَيهِ العِنَانَ خَارِجًا مِن بَيتِ اللهِ، هَارِبًا مِن أَحَبِّ البِقَاعِ إِلى مَولاهُ، لم يَذكُرِ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً، وَلم يَتَزَوَّدْ قَبلَ صَلاتِهِ بِنَافِلَةٍ، وَلا أَقَامَ بَعدَهَا سُنَّةً، وَكَأَنَّمَا كَانَ في سِجنٍ فَأُطلِقَ مِنهُ، وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَن لَحِقَ النَّقصُ بِصَلاةِ الفَرِيضَةِ، وَنَالَهَا مِنَ التَّقصِيرِ مَا نَالَهَا، فَعَادَتِ المَسَاجِدُ تَشكُو قِلَّةَ المُصَلِّينَ، وَصَارَت صَلاةُ الكَثِيرِينَ جَوفَاءَ خَالِيَةً مِن رُوحِهَا وَلُبِّهَا، قَد نُزِعَت مِنهَا مَادَّةُ تَأثِيرِهَا، يَخرُجُ أَحَدُهُم مِنهَا كَمَا دَخَلَ فِيهَا، وَيَقتَرِفُ قَبلَهَا وَبَعدَهَا مِنَ الكَبَائِرِ وَيَأتي مِنَ المُوبِقَاتِ مَا لَو كَانَت صَلاتُهُ كَامِلَةً مُكَمَّلَةً، لَنَهَتهُ عَنهَا وَحَالَت بَينَهُ وَبَينَهَا.
أحبتي في الله ، إِنَّ لِلنَّوَافِلِ فَضَائِلَ مُتَعَدِّدَةً، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنهَا كَفِيلَةٌ بِأَن تَبعَثَ في نَفسِ المُسلِمِ الصَّادِقِ مِنَ الهِمَّةِ وَالنَّشَاطِ وَالرَّغبَةِ، مَا يَدعُوهُ لأَن يُحَافِظَ عَلَيهَا وَيُوَاظِبَ عَلَى فِعلِهَا، أَوَّلُهَا وَهُوَ أَعظَمُهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِنَيلِ مَحَبَّةِ اللهِ – تَعَالى – فَفِي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ قَالَ اللهُ – تَعَالى -: ” مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها، وَرِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها، وَإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ ”
مَا أَعظَمَهُ مِن فَضلٍ! الرَّحمَنُ الرَّحِيمُ يَتَحَبَّبُ إِلى عِبَادِهِ وَهُوَ غَنيٌّ عَنهُم، وَيَدُلُّهُم بِفَضلِهِ عَلَى مَا يَرفَعُ قَدرَهُم، فَهَل تَخَيَّلتَ اخي في اللهِ جَمَالَ الفَضلِ وَكَمَالَ الشَّرَفِ وَعُلُوَّ المَنزِلَةِ؟!
بَل هَل تَصَوَّرتَ كَم سَتَكُونُ حَيَاتُكَ هَانِئَةً وَسَعَادَتُكَ بَالِغَةً، حِينَ تَحرِصُ عَلَى النَّوَافِلِ وَتُؤَدِّيهَا مُخلِصًا لِرَبِّكَ، فَيُحِبَّكَ الَّذِي خَلَقَكَ وَبِيَدِهِ كُلُّ أَمرِكَ! مَاذَا تَتَوَقَّعُ إِذَا أَحَبَّكَ رَبُّكَ؟! أَتُرَاهُ يُصِيبُكَ مِنهُ حِينَئِذٍ إِلاَّ كُلُّ خَيرٍ؟! إِنَّهُ – تَعَالى – لَيُحسِنُ إِلى كُلِّ عِبَادِهِ حَتى المُعرِضُونَ مِنهُم، فَكَيفَ بِمَن يُحِبُّهُم؟! إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ لِمُحَافَظَتِهِم عَلَى النَّوَافِلِ مُوَفَّقُونَ سَائِرِ جَوَارِحِهِم، فَلا يَسمَعُونَ إِلاَّ خَيرًا، وَلا يَنظُرُونَ إِلاَّ إِلى مَا يَسُرُّ، وَلا يَتَنَاوَلُونَ إِلاَّ مَا يَنفَعُ، ثم هُم مَوعُودُونَ مِن رَبِّهِم وَمِن نَبِيِّهِم بِجَوَائِزَ عَظِيمَةٍ، جَوَائِزُ لَو أُعطِيَت لأَحَدِنَا في دُنيَاهُ لَبَذَلَ مِن أَجلِهَا كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ، فَكَيفَ وَهِيَ في الجَنَّةِ؟! أَلا فَتَعَالَ وَاسمَعْ بِقَلبِكَ قَبلَ أُذُنِكَ قَولَ نَبِيِّكَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ” مَا مِن عَبدٍ مُسلِمٍ يُصَلِّي للهِ – تَعَالى – في كُلِّ يَومٍ ثِنتَي عَشرَةَ رَكعَةً تَطَوُّعًا غَيرَ فَرِيضَةٍ، إِلاَّ بَنى اللهُ – تَعَالى – لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ، أَو إِلاَّ بُنِيَ لَهُ بَيتٌ في الجَنَّةِ ” رَوَاهُ مسلِمٌ، وَعَن رَبِيعَةَ بنِ كَعبٍ – رضي الله عنه – قَالَ: كُنتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَأَتَيتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لي: ” سَلْ ” فَقُلتُ: أَسأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قَالَ: ” أَوَ غَيرَ ذَلِكَ؟! ” قُلتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: ” فَأَعِنِّي عَلَى نَفسِكَ بِكَثرَةِ السُّجُودِ ” رَوَاهُ مُسلِمٌ. أَفَلا تُحِبُّ اخي اللهِ أَن يَبنيَ اللهُ لَكَ بَيتًا في الجَنَّةِ، الدَّارِ الَّتي كَتَبَ اللهُ عَلَى أَهلِهَا البَقَاءَ أَبَدَ الآبَادِ، في نَعِيمٍ لا يَحُولُ وَلا يَزُولُ، وَالجَارُ مُحَمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم – وَمَن كَتَبَ اللهُ لَهُ السَّعَادَةَ وَأَنعَمَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؟! أَلا تَفعَلُ كَمَا فَعَلَ العُقَلاءُ الأَتقِيَاءُ وَقَد سَمِعُوا هَذَا الفَضلَ وَعَرَفُوهُ؟! رَوَى مُسلِمٌ عَن أُمِّ حَبِيبَةَ زَوجِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهَا قَالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ” مَا مِن عَبدٍ مُسلِمٍ يُصَلِّي للهِ كُلَّ يَومٍ ثِنتَي عَشرَةَ رَكعَةً تَطَوُّعًا غَيرَ فَرِيضَةٍ، إِلاَّ بَنَى اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ ” قَالَت أَمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا بَرِحتُ أُصَلِّيهِنَّ.
فَرَضِيَ اللهُ عَنهَا مَا أَعقَلَهَا وَأَشَدَّ إِيمَانَهَا وَحِرصَهَا عَلَى مَا يَنفَعُهَا! سَمِعَت بِهَذَا الفَضلِ وَصَدَّقَت بِهِ تَمَامَ التَّصدِيقِ، فَلَم تَزَلْ تُصَلِّي هَذِهِ النَّوَافِلَ وَتَتَعَاهَدُهَا وَتُحَافِظُ عَلَيهَا، وَهَكَذَا كَانَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ – رضي الله عنهم – فَقَد رَوَى مُسلمٌ عَن أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: كُنَّا بِالمَدِينَةِ، فَإِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ المَغرِبِ ابتَدَرُوا السَّوَارِيَ فَرَكَعُوا رَكعَتَينِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الغَرِيبَ لَيَدخُلُ المَسجِدَ، فَيَحسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَد صُلِّيَت مِن كَثرَةِ مَن يُصَلِّيهمَا. وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ – رضي الله عنهم – لأَنَّهُم سَمِعُوا الحَبِيبَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ” صَلُّوا قَبلَ المَغرِبِ، صَلُّوا قَبلَ المَغرِبِ، صَلُّوا قَبلَ المَغرِبِ ” قَالَ في الثَّالِثَة: ” لِمَن شَاءَ ” رَوَاهُ البُخَارِيُّ. هَكَذَا كَانُوا – رضي الله عنهم – مَعَ صَلاحِهِم وَمَا قَدَّمُوهُ في سَبِيلِ اللهِ مِن جِهَادٍ وَتَعلِيمِ عِلمٍ وَدَعوَةٍ إِلى اللهِ وَبَذلٍ، إِلاَّ أَنَّهُم لم يَفتَؤُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلى رَبِّهِم وَيَتَزَوَّدُونَ لآخِرَتِهِم، فَكَيفَ بِنَا وَقَد فَرَّطنَا في كَثِيرٍ مِنَ الشَّعَائِرِ وَالشَّرَائِعِ، وَظَهَرَ فِينَا الخَلَلُ وَالنَّقصُ، أَلَسنَا في حَاجَةٍ إِلى مَا يَجبُرُ كَسرَنَا وَيَسُدُّ خَلَلَنَا؟! أَينَ عُقُولُنَا – أَيُّهَا المُسلِمُونَ -؟! أَوَ يَصعُبُ عَلَى أَحَدِنَا أَن يُؤَدِّيَ رَكَعَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، لا تَستَغرِقُ مِنهُ إِلاَّ دَقَائِقَ مَعدُودَاتٍ، يَنطَلِقُ بَعدَهَا في دُنيَاهُ مَكلُوءًا بِرِعَايَةِ اللهِ؟! هَلِ استَغنَينَا عَن بَيتٍ في الجَنَّةِ نُجَاوِرُ فِيهِ الحَبِيبَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -؟
أي قَسوَةُ هذه وَأَيُّ جَفَاءٍ هَذَا؟! ثم أَلَم تَعلَمْ – أَيُّهَا الفَقِيرُ إِلى رَحمَةِ مَولاهُ – أَنَّ الصَّلاةَ هِيَ عَمُودُ الإِسلامِ، وَأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يُسأَلُ عَنهُ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ؛ فَإِن صَلَحَت صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِن فَسَدَت فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ؟! قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ” إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ مِن عَمَلِهِ صَلاتُهُ، فَإِن صَلَحَت فَقَد أَفلَحَ وَأَنجَحَ، وَإِن فَسَدَت فَقَد خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انتَقَصَ مِن فَرِيضَتِهِ شَيءٌ قَالَ الرَّبُّ – تَبَارَكَ وَتَعَالى -: اُنظُرُوا هَل لِعَبدِي مِن تَطَوُّعٍ؟ فَيُكَمَّلُ بها مَا انتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ” رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وَمِن فَضَائِلِ النَّوَافِلِ – أَيُّهَا الإخوة في الله – أَنَّها تُنجِي العَبدَ مِنَ النَّارِ بِرَحمَةِ اللهِ، وَتَحُطُّ عَنهُ الخَطَايَا وَتَرفَعُ دَرَجَاتِهِ في الجَنَّةِ، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ” مَن حَافَظَ عَلَى أَربَعِ رَكَعَاتٍ قَبلَ الظُّهرِ وَأَربَعٍ بَعدَهَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ ” رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَابنُ مَاجَه. وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ” عَلَيكَ بِكَثرَةِ السُّجُودِ للَّهِ؛ فَإِنَّكَ لا تَسجُدُ للَّهِ سَجدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بها دَرَجَةً وَحَطَّ عَنكَ بها خَطِيئَةً ” رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَمِن فَضَائِلِ النَّوَافِلِ – أَيُّهَا الاحبة – أَنَّهَا تَعدِلُ صَدَقَاتٍ كَثِيرَةً، فَفِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ قَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ” يُصبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِن أَحَدِكُم صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمرٌ بِالمَعرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجزِئُ مِن ذَلِكَ رَكعَتَانِ يَركَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى ” يَا لَهُ مِن أَجرٍ عَظِيمٍ وَفَضلٍ كَبِيرٍ، يَركَعُ المُسلِمُ في أَيِّ وَقتٍ مِنَ الضُّحَى رَكعَتَينِ، فَتُجزِئَانِهِ عَن ثَلاثِ مِئَةٍ وَسِتِّينَ صَدَقَةً!
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – احبتي في الله – وَلْنُقَدِّمْ لأَنفُسِنَا مَا دُمنَا قَادِرِينَ، قَبلَ أَن يَتَمَنَّى أَحَدُنَا رَكعَتَينِ يُثقِلُ بهما مِيزَانَهُ فَلا يَستَطِيعُ، قَالَ – صلى الله عليه وسلم -: ” رَكعَتَا الفَجرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فِيهَا ” رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – مَرَّ بِقَبرٍ فَقَالَ: ” مَن صَاحِبُ هَذَا القَبرِ؟ ” فَقَالُوا: فُلانٌ. فَقَالَ: ” رَكعَتَانِ أَحَبُّ إِلى هَذَا مِن بَقِيَّةِ دُنيَاكُم ” رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ
فَبادِروا الأَوْقات قَبْلَ فَواتِهَا وحاسبوا أنفسكم على هفواتها (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أقولٌ قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ شرح صدور المؤمنين للإقبال على طاعته، أحمده سبحانه؛ خصَّ هذه العَشْر من رمضان بمزيد فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبده ورسوله، خيرُ مَنِ احتَفى بهذه العَشْر، وأطال فيها القيام لعباده ربِّه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله، في زمان القرب يَتِمُّ الوصال، وفي فترات السعادة تبلغ الأَنْفُس غاية الآمال؛ فهلمُّوا عباد الله إلى القُرْب من الربِّ الكريم بالطاعة؛ فقد آن أوان الوصال، ولئن كانت الطاعة في سائر أيام الشهر المبارك – بل وفي سائر الأزمان – فضيلةً ومَحْمَدَةً؛ فهي في هذه العَشْر الأخير من رمضان أعظمُ فضلاً، وأرفع قدرًا، وأكثر حمدًا، وأكرم أجرًا، ذلك لأنها عَشْرُ التجلِّيَّات والنَّفحات، عَشْرُ إقالة العَثَرات، وتكفير السيِّئات، واستجابة الدَّعوات، عَشْرٌ تصفو فيها الأوقات للذيذ المناجات، والانكسار والذلِّ والتضرُّع وسَكْب العَبَرات، بين يدي بارئ الأرض والسماوات، فكم وكم فيها لربِّ العزَّة من عتيقٍ من النار، وطليقٍ من عذابها، وكم من أسيرٍ للذنوب وصله الله بعد القطع، وكتب له السعادة بعد طول العناء والشقاء، ببركة ما قدَّم في هذه العَشْر من توبةٍ صادقةٍ، وبفضل ما بذل من جَهْدٍ من الباقيات الصالحات.
فيا لسعادة السعداء، الذي شقُّوا الطريق إلى الجنة بعمل أهل الجنة، وهاجروا في هذه العَشْر إلى الله، وهجروا من أجله كلَّ محبوبٍ ومرغوبٍ ومطلوبٍ، واشتغلوا فيها بنَيْل رضاه، فتمَّت لهم الفرحة يوم الجوائز، وكانوا من أكرم القادمين على الله.
ولقد رسم رسول الهدى – صلى الله عليه وسلم للأمَّة في هذه العَشْر خيرَ نَهجٍ يوصِل إلى الغاية الحميدة ومنازل السعداء؛ ففي “الصحيحين” عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا دخل العَشْر، شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”، وذلك مما يُشعِر بالاهتمام العظيم بالعبادة، والتفرُّغ لها، والانقطاع إليها عن كلِّ شاغِل. وعنها أيضًا: “أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العَشْر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله”؛ أي يلزم المسجد لا يبرحه، ولا يشتغِل بغير العبادة فيها؛ اغتنامًا للفرصة، وسَيْرًا على نهج الصالحين، فإن الفرصة إذا أفلتت كانت حسرةً وندامة، وليس لأحدٍ علمٌ بطول العمر، ليستدرك في المستقبل ما فاته في الماضي، وليشتغل بصالح العمل ليدرك الأمل، إنما هي أنفاسٌ معدودة، وآجالُ محدودة، فمَن اغتنم فيها الفرصة الحاضرة، وتاجر في الأعمال الصالحة – ربح المَغْنَم.
أحبتي في الله ،
ألا وإن من الغُبْن الواضح: أن ينصرف البعض عن العبادة في هذه العَشْر، وأن ينشغلوا عنها بإعداد اللِّباس والرِّياش، والاستعداد للعيد بالمباهج والزخرف والجديد، وأن ترتفع نسبة اللاهين والغافلين الذين يذرعون الأسواق طلبًا للمتعة، أو يحيون هذه الليالي المفضَّلة في اللهو والعبث، والاستماع إلى الأغاني الرقيعة، والتفكُّه بالتمثيليات الساخرة الماجِنة، وليس ذلك بالمسلك السديد، ولا النهج الرشيد.
وحسْب هذه العَشْر فضلاً يا عباد الله وشرفًا: أن خصَّها الله بليلة القدر، التي تَفْضُل العبادة فيها عبادة ألف شهر، ليلة تجري فيها أقلام القضاء والتقدير، بإسعاد السعداء، وشقاوة الأشقياء، ورفعة منازل الأبرار، وخفض درجات الفجَّار، إنها ليلة الشرف العظيم، فيها يفرق كل أمر حكيم، فهي حَرِيَّة بالتعظيم والتكريم، جديرة بإحيائها بالعبادة، وطول القيام والركوع والسجود، لعظمة العظيم، وطاعة الرب المنعم الكريم.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))، ومَنْ منَّا يا عباد الله من لا تتطلع نفسه إلى هذا الجزاء العظيم، والفيض العميم، والتخلُّص من تبعات الذنوب؟
وقيام ليلة القدر إنما يكون بالتهجُّد فيها والصلاة والدعاء، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تدعوَ فيها، وتسأل الله العفوَ كشأن المقصِّرين، والله سبحانه هو العَفُوُّ الكريم، وجميع الذنوب صغيرة في جنب عفو الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لهذه الليلة المفضَّلة قدرها، بالعمل على إحيائها في العبادة، والتمسوها في أفراد هذه العَشْر كما جاء في الحديث: ((تحرُّوا ليلة القدر، في الوِتْر من العَشْر الأواخر من رمضان)).
فحريٌّ بمَنِ التمسها فيه ألاَّ يخيب، وأن يظفر بمرغوبه ومطلوبه، وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، والله ذو الفضل العظيم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر.
عباد الله : إننا نشكر الله – عز وجل – على ما أنعم به من إتمام صيام رمضان وقيامه ، ونسأله تعالى الذي وفقنا لذلك أن يوفقنا لقبوله ، نسأله تعالى أن يوفقنا لقبول صيامنا ، وقيامنا ، وسائر أعمالنا (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْـدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَـةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا ،اللهــم وفق وانصر ملك البلاد أمير المومنين محمد السادس لما تحـب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، واحفظه في ولي عهده وشد أزره بأخيه وأسرته وشعبه.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْمـاً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَـــــلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخـرة.اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحســــن عبادتك واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.. اللهُمَّ إنّا دعوناكَ فاسْتَجِبْ لنا دُعاءنا فاغفر اللهم لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتوفّنا وأنت راضٍ عنّا، اللهمَّ من أحييته منّا فأحيهِ على الإسلام ومن توفّيتهُ منّا فتوفَّهُ على كاملِ الِإيْمان، اللهمّ لا تدعْ لنا في يومنا هذا ذنّبًا إلا غفرته ولا مريضًا إلا شفيتـه يا أرحم الرّاحمين اللهم إنا نسألك في هذه الأيام الكريمة أن تمن علينا جميعا بما مننت به على عبـادك الصالحين، اللهم وفقنا لتوبة صادقة نصوح، اللهم اكفف نفوسنا عن الحرام، أغننا بالحلال. اللهم أعنا على قيام العشر الأواخر ووفقنا لقيام ليلة القدر.
اللهم وفق شبابنا ونساءنا وصغارنا للاستقامة على هذا الدين، والالتزام بتعاليمه، اللهم ارزقنا في هذه الأيام وما بعدها الإخلاص الدائم، والاستقامة الصادقة، واجعلنا من عبادك المتقين المقبولين.اللهم استُر عوراتنا وآمن روعاتنا واجعلنا من عبــــادك المتخلقين بأخلاق نبيك المصطفى وشمائله العظيمة.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد الهادي السبيوي