خطبة عن الصبر

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم

سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، ويقول أيضا: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، ويقول: (والله يحب الصابرين)، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له”.
أيها الإخوة الكرام، اقتضت حكمة الله أن تكون حياة البشر على ظهر هذه الأرض مزيجًا من السعادة والشقاء، والفرح والترح، واللذائذ والآلام، فيستحيل أن ترى فيها لذة غير مشوبة بألم، أو صحة لا يكدرها سقم، أو سرور لا ينغصه حزن، أو راحة لا يخالطها تعب، أو اجتماع لا يعقبه فراق، قال الله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وقال أحد الربانيين الحكماء في حكمة رائعة: لا تستغرب وقوع الأكدار مادمت في هذه الدار فإنها ما أظهرت إلا ما هو مستحق نعتها وواجب وصفها”، وبالمناسبة أيها الإخوة الكرام إن الذي يمني نفسه بأن الدنيا دار راحة وفرح وسعادة فإنما يطلب المستحيل فيها، ومن أراد ذلك فليعمل للآخرة ويسعى لها سعيها فهي الدار بدون تعب وبدون قرح أو شقاء.
ولهذا فإن خير ما تواجه به تقلبات الحياة ومصائب الدنيا، الصبر على الشدائد والمصائب، ذلكم الصبر الذي يمتنع معه العبد من فعل ما لا يحسن وما لا يليق، وحقيقة الصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود ونحو ذلك عند نزول الشدائد، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وقد ذُكر في القرآن في نحو تسعين موضعا كما قال الإمام أحمد، وما ذاك إلا لضرورته وحاجة العبد إليه، وعرفه بعضهم بقوله: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى عند حلول الفقر بساحة المعيشة، وله عدة مظاهر وصور، فالإنسان العفيف عن المحرمات يعد صابرا، والإنسان الشريف النفس يعد صابرا، والإنسان القانع يعد صابرا والذي يرجع الأمور إلى ربه وخالقه عند نزول المصيبة يعتبر من الصابرين والذي يكتم سر غيره يعد صابرا والصابر على أذى صديقه وزوجه وشريكه يعد صابرا، وقلما أبصرت عيناكم من رجل ناجح في حياته وفي عمله وفي علاقاته إلا وله نصيب وافر من الصبر.
والصبر أيها الإخوة الكرام ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، ونعني به ضبط النفس وحبسها في الثبات على فعل الطاعات، لأن المداومة والثبات على طاعة الله يحتاج إلى صبر، ويحتاج لبعض المجهود والمجاهدة.
أما النوع الثاني، فهو الصبر عن المعصية، والتي غالبا ما توافق شهوة الإنسان أو غريزته، وما أكثر الشهوات التي نحبها ويسيل لعابنا وراءها، لذلك يجب علينا الصبر عن المعصية ومقاومة هذه الشهوات حتى يرزقنا الله إياها بحلالها، تمعنوا أيها الإخوة والأخوات في سيدنا “يوسف” عليه السلام تحيط به كل أسباب المعصية، فهو شاب عازب غريب ليس في بلده، عبدٌ عند المرأة التي دعته للمعصية، وهي ذات منصب وجمال، وهي التي تطلب، وغلّقت الأبواب لتأمين فعل المعصية، ومع ذلك قال: “معاذ الله” فجذبته إليها، فدفعها عنه ليبعدها، ولما شاع أمرها وعرف نساء المدينة حبها لسيدنا “يوسف”، تكلمن عنها حتى إذا رأينه أحببنه، وصار معشوقا لكل نساء المدينة، كل هذا وهو يقول: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فصبر سيدنا “يوسف” على هذه الفتنة الرهيبة، فكان الجزاء أن نجّاه الله منها، وأصبح بعد فترة سيد هذا القصر بل سيد مصر كلها، بل واحدا من سادات الدنيا.
فاصبروا عباد الله، وهيا بنا لنخالف شهواتنا ونجاهد أنفسنا من أجل نيل رضاء الله ومن أجل أن يرزقنا ويوسِّع علينا من حلال نفس الشيء الذي صبرنا عن حرامه، فإذا عرضت عليكم وظيفة فيها مال حرام فاصبروا حتى يأتي المال الحلال، وقلوبكم ممتلئة ثقة أن الله لن يضيعكم، وإذا عرضت عليكِم أيها الشباب علاقة محرمة فاصبروا حتى يرسل الله إليكم الزوج الطيب الصالح وقلوبكم ممتلئة بهذه الآية الكريمة: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
والنوع الثالث من أنواع الصبر هو الصبر على ابتلاءات الدنيا وأحداثها العصيبة من ضيق في الرزق أو موت حبيب أو عزيز، أو إيذاء من أحد من الناس أو تأخير الفرج، فكل هذه ابتلاءات فيها الخير، ووراءها العطاء الكثير من الله لو صبرنا عليها،كم وكم من إنسان تعلم الدعاء واللجوء إلى الله وسط المحن، وكم من إنسان تاب ورجع إلى الله وسط المحن، وكم من إنسان خرج من المحن من غير ذنوب، وكم من إنسان ميّز بين الصاحب الصالح والصاحب السيئ أثناء المحن، وإنما يعرف معدن الإنسان الطيب عند صبره عند المحن، وهناك نوع رابع من الصبر لا يحبه الله وهو الصبر عن الله، وهو أن يصبر أحدنا في البعد عن الله بل أن يجد أحدنا حلاوة في البعد والغفلة عن الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله،
قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)، وروى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة، وروى الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي  صلى الله عليه وسلم  يقول : إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر واحتسب عوضته منهما الجنة”، وفي رواية للترمذي فصبر واحتسب”، وروى ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله سبحانه:ابن آدم إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرض لك ثوابا دون الجنة”، وقال حكيم: “العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد السبعة أيام”، فهذه أيها الإخوة الكرام بعض ثمرات الصبر التي يجنيها الصابرون في الدنيا والآخرة.  
ولكي يتصبر أحدنا ويتخلق بخلق الصبر أحب أن أتوقف عند بعض الأسباب المعينة عليه، أولها المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا، ذلك أن من عرف طبيعة الدنيا وما جبلت عليه من الكدر والمشقة والعناء هان عليه ما يبتلى به فيها لأنه وقع في أمر يتوقعه، وكثيرون هم الذين لا يعرفون طبيعة الحياة الدنيا وما جلبت عليه فيرجعون ما يصابون به إلى شؤمهم وسوء حظهم، ولذلك كثيرا ما يصابون بالاكتئاب والضيق وغيرها من الأمراض النفسية المستعصية وغالبا مايبادر هؤلاء بالإجهاز على أنفسهم بالانتحار والعياذ بالله أو التفكير فيه، وماذلك إلا لقلة إيمانهم وعدم معرفتهم بالدنيا وأحوالها.
ثاني هذه الأسباب، معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله تعالى ومرجعك إليه، وثالثها اليقين بحسن الجزاء عند الله، ورابعها، الثقة بحصول الفرج من الله، ذلكم أن يقين العبد بأن النصر مقرون بالصبر وأن الفرج آت بعد الكرب وأن مع العسر يسراً يقويه على الصبر على ما يلاقيه، قال تعالى: (فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا)، قال بعضهم لن يغلب عسر يسرين، خامسها، إن اشتداد الأزمة في سنن الله تعني قرب الفرج، سادسها، الاستعانة بالله، لأنه لولا عون الله ورفده ما استطاع مسلم أن يقوى على طاعة الله، سابعها الاقتداء بأهل الصبر وسير الصابرين، وثامنها الإيمان بقدر الله، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *