الحياء لا يأتي إلا بخير

الحمد لله، الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه الصراط المستقيم، وجمله بالحياء والخلق الكريم، نحمده تعالى ونشكره على فضله العميم،

ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الهادي الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء”، ويقول أيضا: “الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء (الفحش) من الجفاء، والجفاء في النار”، وقال أيضا: “الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر”.
أيها الإخوة المؤمنون: اعلموا أن الإسلام جاء داعيا إلى الفضيلة، محذرا الناس من عواقب الرذيلة، آخذا بيد العباد إلى ما يوثق عرى المحبة والمودة فيما بينهم، كما أيقظ في الناس المشاعر، وأنار منهم البصائر، فكانوا في كل شأنهم ذاكرين الله خالقهم، مستحضرين عظمته وقدرته في ضمائرهم وعقولهم، حتى استقاموا على محجة ربهم، وسلكوا أقوم طريق في حياتهم، فعاشوا في الدنيا سعداء كرماء، تظلهم راية الإيمان، وتحوطهم عناية الرحمان، كل ذلك كان ثمرة لما جاء به الإسلام، ودعا إليه سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ولقد كان من أعظم تلك الفضائل وأقواها أثرا في سلوك المسلم، خلق الحياء، ذلكم الخلق الإسلامي الرفيع الذي يثمر في صاحبه الكمال في كل شأنه، ويضفي عليه من المهابة والوقار ما يسمو به بين أبناء جنسه وأقرانه، ذلكم الخلق المحمود الذي يحبب إلى المتحلي به الطاعة والتقوى والاستقامة والإيمان، ويقف به عند حدود الله الملك الديان، ويبغض إليه الكفر والفسوق والعصيان.
من أجل ذلك كان الحياء خيرا كله، وكان على رأس الفضائل وقرين الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: “الحياء لا يأتي إلا بخير” وقال أيضا: “الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”، ولقد جاء في الحكم: “من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه”، وكفى به خيرا أن يكون على الخير دليلا، وكفى بالقحة (الجفاء) والبذاء شرا أن يكون إلى الشر سبيلا” ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما كان الفحش (القبيح من القول والفعل) في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه”.
أيها المؤمنون، إن خلق الحياء في الدرجة العليا من مكارم الأخلاق، وإنه في النعمة شكر، وفي المحنة تسليم وصبر، وفي معاملة الضعفاء والأرامل والأيتام عطف ورحمة ورفق وإحسان، ومع الوالدين والأرحام صله وبر وإحسان، وفي الودائع أمانة ورعاية، وفي الرجال جمال وزينة ووقاية، وفي النساء عفة وطاعة وطهارة، وفي القضاء إنصاف وعدل ومشاورة، وفي الإرشاد نصح وإخلاص وتضحية، وفي هذا كله سعادة الإنسان وصلاحه، وفي هذا نجاته في الدارين وفلاحه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “الحياء خير كله”.
وكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الحياء ويحثهم على الاتصاف به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لجمع من الصحابة الأبرار: “استحيوا من الله، فقالوا: يا رسول الله إنا نستحيي من الله، والحمد لله، فقال صلى الله عليه وسلم:”ليس ذاك، ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء”، هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومن أصدق من الذي لا ينطق عن الهوى قيلا، إنه صلى الله عليه وسلم يريد لأبناء أمته حياءا منبعثا من أعماقهم، تتجلى فيه خشيتهم لربهم، لا حياءا مكذوبا ومصطنعا، يريد صلى الله عليه وسلم الحياء الذي يظهر أثره في سلوك المسلم وعمله، فيحفظ رأسه وما وعاه من سمع وبصر ولسان، من الاستعمال في سوء أو أذى أو بهتان، فلا يقول كذبا، ولا ينطق بفحش أبدا، بل يكون بلسانه ذاكرا شاكرا، داعيا إلى الله، معلما إخوانه مما علمه الله، داعيا إلى المحبة والوئام، والتعاون على البر والتقوى وخير الصالح العام، وأن يحفظ سمعه عن سماع كلام الكذب والزور والغيبة والآثام، حتى لا يتأثر بها وينشرها بين الأنام، وأن يحفظ بصره من النظر إلى المحرمات، فرارا من إيقاد نار الشهوات، وامتثالا لقول رب الأرض والسماوات: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن).
وأن يحفظ بطنه من الحرام ويترك كل ما شبه باهتمام، فلا يدخل فيه إلا الحلال الطيب المكتسب بالطرق المشروعة، وأن يذكر الموت والبلى والحساب والجزاء، في ذلك اليوم والمشهد العظيم الذي تبلى فيه السرائر ويقدم فيه لكل واحد منا كتابه الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويقال له: (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)، فمن فعل كل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء، فإذا هفا هفوة، والكمال لله تعالى، أو بدت منه بادرة سوء أخفاها وكتمها وسارع إلى التوبة منها حتى لا تعم الفاحشة، ولا تفشو الموبقة، ولا تظهر المعصية فيعم الفساد، وفي ذلك وبال على البلاد والعباد. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
هذا أيها الإخوة المؤمنون هو خلق الحياء الذي يعد بحق ثمرة من ثمرات خشية الرحمان، وشعبة عظيمة من شعب الإيمان، وقد أدركه ما أدرك الفرائض والواجبات كالصلاة والزكاة والصيام من تفريط وضياع ونسيان من طرف الكثير من أهل هذا الزمان، فأصبح الحياء منعدما أو كاد ينعدم في مجتمعاتنا، فأصبحت أينما توجهت لا ترى عيناك إلا مناظر عارية من كل حشمة وحياء، ولا تسمع أذناك إلا كلمات نابية من منكر القول وفحشه، كسب الدين والملة والوالدين، والكذب وخيانة الأمانة وخلف والوعد بين المتعاهدين، فكان من نتيجة ذلك كله أن هوى مجتمعنا إلى الحضيض، وأصبحنا نتعرض إلى امتحانات قاسية من ذي الحول والطول الذي يغار على حرماته أن تنتهك، وعلى شريعته أن تهان، ولكن قليل منا هم التائبون، وقليل منا المتذكرون والمعتبرون.
فحذار إخواني من التمادي في الغفلة والعصيان، والتخلي عن الحياء واتباع خطوات الشيطان، فإن ذلك موجب لانتقام الرحمان، ومؤد إلى الدمار والهلاك والخسران، وإن أمامنا سفينة النجاة فلنركبها جميعا تائبين منيبين إلى ربنا راجعين، إنها كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيهما النجاة وفيهما الهدى والرشاد، يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون).
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *