في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فيا عباد الله،
يقول الله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا).
أيها الإخوة الكرام، سيهل علينا هلال شهر الله محرم الحرام بعد أيام معدودات، وهو إيذان بدخول عام هجري جديد يذكرنا بذكرى الهجرة النبوية الشريفة، ذلكم اليوم الحاسم الذي هاجر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لذلكم ومن خلال خطبة هذا اليوم المبارك سنقف وإياكم عند أهم العبر والعظات والدلالات والدروس التي يمكن أن نستفيدها جميعا من هذا الحدث المبارك – وما أكثرها-، وإني لن أتوقف عند سرد الأحداث التي يعلمها غالبيتكم لحظة بلحظة، فهي أضحت مستهلكة ومكررة، ولكنني أتمنى من كل واحد منكم أن يعيد قراءتها لوحده ويقف عندها أو يستمع إليها، خاصة وقد جاءت مناسبتها، لأنه بالاطلاع على مواقف الصحابة الكرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى المعجزات الصحيحة الباهرة التي أكرم الله بها نبيه في هذه الرحلة، سيزداد الحب في قلوبكم لنبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولصحابته رضي الله عنهم الذين آزروه في هذه المحنة وفي هذه الظروف العصيبة.
أيها الإخوة الكرام، أول هذه العبر المستفادة أن الله عز وجل جعل قداسة الدين والعقيدة فوق كل شيء، فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب والزوال، ولذلك شرع الله عز وجل مبدأ التضحية بالمال والأرض في سبيل العقيدة والدين عندما يقتضي الأمر ذلك، فبه يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة، وإن بدا لأول وهلة أنهم تعروا عن كل ذلك وفقدوه، وحسبنا دليلا على هذه الحقيقة هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فلقد كانت بحسب الظاهر تركا للوطن وتضييعا له، ولكنها في واقع الحال كانت حفاظا عليه وضمانة له، وبذلك فإن أي مكان وأي بيئة وأي ظرف وأي ترتيب يحول بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تتحول عنه، لأن علة وجود الإنسان والغاية من وجوده إنما هي عبادة الله تعالى، قال عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
ومن أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرته عليه الصلاة والسلام استبقاؤه لأبي بكر رضي الله عنه دون غيره من الصحابة كي يكون رفيقه في هذه الرحلة، وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وأنه أقرب أصحابه إليه وأولاهم بالخلافة من بعده، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:”لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا”، وفي قصة الهجرة هذه وجدنا سيدنا أبا بكر قد جند أمواله وابنه وبنته ومولاه وراعي أغنامه في سبيل خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الشاقة الطويلة.
ومن دروس الهجرة أيضا نتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم له أقوال وصفات وله مواقف وأفعال، قال السادة العلماء: إن مواقفه وأفعاله أصدق في الدلالة على فهمه لوحي السماء من أقواله، لأن أقواله قد تؤول على خلاف ما أراد، أما أفعاله فهي حدية لا تحتمل التأويل، إذا ينبغي أن نأخذ ما قاله ونتأسى بأفعاله صلى الله عليه وسلم.
وفي تخلف علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في أداء الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذي كان المشركون واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويرونه ساحرا أو مخادعا لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقا، فكانوا لا يضعون حوائجهم وأموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب شك لديهم في صدقه، وإنما هو بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به وخوفا على زعامتهم وطغيانهم.
ثم إننا نلمح في النشاط الذي كان يبذله عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، ذاهبا آيبا بين الغار ومكة، يتحسس الأخبار وينقلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيه، وفيما بدا على أخته أسماء رضي الله عنها من مظاهر الاهتمام الجد في تهييء الزاد والراحلة واشتراكها في إعداد العدة لتلك الرحلة، نلمح في ذلك صور مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكورا ونساء في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام ونفع المجتمع الإسلامي، فلا يكفي أن يكون الإنسان منطويا على نفسه مقتصرا على عباداته، بل عليه أن يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعيا في سبيل الإسلام والمسلمين، وإذا تأملت فيمن كان حول النبي صلى الله عليه وسلم في فترته الأولى، وجدت أن أغلبيتهم العظمى كانوا شبابا لم يتجاوزوا مرحلتهم الأولى من عمر شبابهم ولم يألوا جهدا من أجل نفع المجتمع الإسلامي، فالمسلمين اليوم يحتاجون إلى أن يعملوا، لابد من أن نعمل كل واحد من موقعه واختصاصاته التي يتقنها، الطالب في جامعته، الصانع في مصنعه، المزارع والفلاح في مزرعته، التاجر في دكانه، الموظف في مكتبه، كل واحد ينبغي أن يسهم في تقوية المسلمين والمجتمع الإسلامي.والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، ومن دروس الهجرة نتعلم أن الهجرة حركة، فالإسلام لا يقبل إعجابا سلبيا، أوضح هذا بالمثال التالي: إنسان مصاب بمرض جلدي ونصحه طبيبه بالتعرض لأشعة الشمس، فهما نطق بلسانه وقال: يا لها من شمس ساطعة، يا لها من شمس عظيمة، يا لها من شمس تطهر الجلد من الأمراض يا لها ويا لها، ولو بقي يتحدث عن الشمس إلى يوم القيامة، فلا قيمة لكلامه إطلاقا ما لم يتحرك، لذلك أن يبقى أحدنا يتكلم في الثناء على هذا الدين وهو ليس ملتزم به، وليس مطبقا له في نفسه ولا في بيته ولا في لهوه ولا في فرحه ولا في مأساته، هذا الإعجاب السلبي وهذا الإقرار بعظمة هذا الدين دون أن يقترن بالعمل لا قيمة له، فلذلك أكثر الآيات التي تتحدث عن (الذين آمنوا) يأتي بعدها (وعملوا الصالحات)، وعدد الآيات القرآنية التي وردت فيها عبارة (الذين آمنوا) متبوعة بـ(عملوا الصالحات) حوالي اثنين وخمسين آية، فلا يكفي الانتماء للإسلام دون عمل الصالحات وبذل الخير للإسلام والمسلمين.
فالهجرة أيها الإخوة الكرام حركة، والهجرة التزام والهجرة انضباط والهجرة انتقال من موقع إلى موقع، هذا الموقع لا يرضي الله لابد أن تنتقل إلى موقع يرضي الله، هذه الحرفة لا ترضي الله ولا تخدم آخرتك لابد أن تدعها إلى وظيفة أخرى ترضي الله، هذه التي خطبتها أيها الشاب ليس لها نصيب من الدين، حيث ستتولى تربية أبنائك، اتركها وابحث عن فتاة مؤمنة.
ومن أعظم الدروس التي يمكن أن نأخذها من الهجرة النبوية هي مسألة الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم، علمنا من خلال حدث الهجرة علمنا أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر سار في طريق معاكس لطريق المدينة تمويها على المطاردين، وحينما تطورت المطاردة وكثرت في الثلاثة أيام الأولى قبع في غار ثور، وهيأ من يمحو له آثار الأقدام، وهيأ من يأتيه بالأخبار، وهيأ من يأتيه بالزاد، واستأجر خبيرا مشركا يدله على الطريق غلب فيه الخبرة على الولاء وغطى كل ثغرة وأخذ بجميع الأسباب، فهو أخذ بهذه الأسباب تعبدا واعتمد على الله توكلا فوصل إلى الغار وأعمى الله المشركين عن رؤيته والنظر إليه، قال تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) والحمد لله رب العالمين.
الدعاء