عظات وعبر من حياة سيدنا عمر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله خير النبيئين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله النخبة الأبرار المتقين.
أما بعد:
أيها الناس، أوصيكم ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وطاعته، امتثالا لقول الباري عز وجل: “يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون”.
عباد الله، إن سلف هذه الأمة، هم أبر الناس قلوباً، وأحسنهم إيماناً، وأقلهم تكلفاً، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية.
إننا اليوم ـ عباد الله ـ سنعيش وإياكم مع واحد من هؤلاء العظماء. مع رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجل غليظ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، ولي من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مرقع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، وقال: “إن نمت بالنهار ضاعت رعيتي، وإن نمت بالليل ضاعت نفسي”.
علم يجب على الأمة أن تجعله وصحبه حديث شيوخها في السمر، وقصص أطفالها الذين لطالما أشغلوا بالقصص الهابط، والرسوم المتحركة، وحديث شبابها في منتدياتهم ونواديهم التي لطالما شُغلت بفلان وعلان.
إنه شهيد المحراب، قتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، إنه سيدنا أبو حفص عمر بن الخطاب فاروق الإسلام أول من تسمى بأمير المومنين رضي الله عنه وأرضاه، وجمعني وإياكم في زمرته.
أسلم لما سمع قوله تعالى: (طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلاَرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ) فَسَرَتْ في قلبه، وحركت وجدانه، فتحول من حال إلى حال.
قصة إسلام عمر بن الخطاب
أسلم في السنة السادسة من النبوة وله سبع وعشرون سنة وهو أحد السباقين الأولين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الخلفاء الراشدين وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يعز الله الإسلام بسيدنا عمر رضي الله عنه فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بعمر بن هشام، وجاء في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة”، وذلك لما عرف به سيدنا عمر بن الخطاب من الصلابة في الحق، وقد نالته بركة دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأعز الله به الإسلام والمسلمين.
إنه من أظهر إسلامه يوم كانوا يخفونه، إنه من تقلد سيفه وتنكب قوسه، وأخرج سهمه، وأتى الكعبة وأشراف قريش في فنائها، فطاف سبعا رغم أنوفهم، وصلى ركعتين، وأتى حلقهم واحدة واحدة يقول: “شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي”، فما تبعه أحد.
نتائج إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه:
وأخرج ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ قال: “لما أسلم عمر نزل جبريل، فقال: “يا محمد! لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ أيضا قال: “لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم اليوم منا، وأنزل الله تعالى: “ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المومنين”، وأخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال: “ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر”، وعن ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال: “كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ فَتْحًا، وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ نَصْرًا، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ رَحْمَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى تَرَكُونَا فَصَلَّيْنَا”.
ولذلك سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفاروق؛ لأنه أظهر الإسلام وفرق بين الحق والباطل كما أخبرت بذلك أمنا عائشة رضي الله عنها.
ما أجمل المؤمن عندما لا يخشى في الله لومة لائم، عندما يبتعد عن النفاق والمداهنة ويصدع بالحق ولو كانت رقبته تحت رحمة السيف، ويقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيأيها المومنون والمومنات إن من يتصفح كتب الصحاح سيقف مشدوها عندما يرى الكم الهائل من الأحاديث التي وردت في فضائل هذا الرجل العظيم رضي الله عنه وأرضاه.
من ذلك أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رأى في منامه ثلاث رؤى فسرها كلها لفائدة سيدنا عمر رضي الله عنه، وكلها صحيحة كالشمس، لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ليست كرؤيا غيره فهو لا يرى إلا حقا.
الأولى: قال صلى الله عليه و سلم:” بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما بلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره”. قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: “الدين”، أخرجه البخاري ومسلم.
الثانية: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “بينما أنا نائم، أتيت بقدح لبن، فشربت، حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب”. قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: “العلم”. رواه البخاري ومسلم.
الثالثة: عن أبي هريرة رضي الله عنه، بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: “بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، قلت لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته، فوليت مدبرا”، فبكى عمر وقال: “أعليك أغار يا رسول الله؟”. أخرجه البخاري.
وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك”.
وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر”.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه”. قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر.
وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب”.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر” أي ملهمون.
وأخرج الشيخان عن عمر قال: “وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: “واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى”.
وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، في الغيرة، فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك.
وأخرج مسلم عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فضربه برجله وقال: “أثبت أحد! فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد”، (سنن أبي داود).
أيها المومنون والمومنات، تولى سيدنا عمر رضي الله عنه أمر الخليفة فكان بحق أميرا وخليفة وأبا حنونا متواضعا لكل مسلم فهو من إذا هدأت العيون وتلألأت النجوم، يأخذ درته ويجوب سكك المدينة، عله يجد ضعيفا يساعده أو فقيرا يعطيه أو مجرما يؤدبه.
يقف على المنبر يوم الجمعة ببرده المرقع، والله لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير لاستطاع، ولكنه رضي الله عنه يقف أثناء الخطبة، فيقرقر بطنه وأمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
وبينما هو يمشي في ليلة من الليالي، إذ بامرأة في جوف دار لها وحولها صبية يبكون، وإذا قدر على النار قد ملأته، فدنا عمر من الباب فقال: أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القدر الذي على النار؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيه شيئا، فبكى عمر ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غرارة وجعل فيها شيئا من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال لمولاه: يا أسلم تحمل علي، قال: يا أمير المومنين، أنا أحمله عنك، قال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة. فحمله حتى أتى به منزل المرأة فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقا وشيئا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا.
وتستمر مسيرة عمر رضي الله عنه، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعا، فحلف عمر لا يأكل سمينا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان رضي الله عنه يبكي ويقول: الله يا عمر كم قتلت من نفس!ولله ذر من قال:
إن لله عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا*** أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا*** صالح الأعمال فيها سفنا
بقيت الإشارة إلى قصة استشهاده وأنه قال قبل وفاته:الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام.والحمد لله رب العالمين.
الدعاء.