مداخلة الأستاذ المحجوب السالك بعنوان:”انتفاضة الزملة وعبقرية الزعيم بصيري”.
بقلم الأستاذ المحجوب السالك،المنسق العام لجبهة البوليزاريو خط الشهيد.
ازدادت الأوضاع سوءا في الصحراء، بعد تصفية جيش التحرير، وقصف الطيران الفرنسي للشعب والمواشي سنة 1958، واسترجاع منطقة طرفاية من طرف المملكة المغربية… وجرى تقسيم رهيب للسكان. حيث أصبح أبناء العائلة الواحدة ،كل واحد له جنسية، واحد جنسيته إسبانية،وآخر جنسيته مغربية، وآخر جنسيته فرنسية جزائرية، وآخر فرنسية موريتانية.
وبما أن الصحراويين لم يتعودوا على هذا النوع من الأوراق، ولم يكن لديهم شعور بالوطن، لأنهم بدويون بطبعهم، فشعارهم: الأرض لله والماء للجميع …لهذا كانوا يتبعون الماء والعشب أينما وُجد. وحتى لما فرضت عليهم القوات الأجنبية ،هذه الجنسيات، ومادامت الدفاتر العائلية غير موجودة أو حديثة العهد. فكان كل واحد أينما حل وارتحل ،يجد أحد أقاربه يتدخل له لدى الإدارة لتعطيه جنسية. فكان معظم الرحالة منهم يحملون أربع جنسيات،وكلما دخل حدود إحدى الدول لدواعي الرعي أو التجارة،أظهر جنسيتها، وهذا يساعدهم على التنقل والترحال مع مواشيهم. مادامت الجنسية لاتعني بالنسبة لهم شيئا، وإنما هي مجرد ورقة تمكن من الدخول للمكان الذي تتوفر فيه للمواشي الماء والمرعى.
وعدم اللامبالاة التي واجه بها الإنسان الصحراوي هذه الجنسيات الجديدة، والحدود والدول التي لم يكن يعرفها، والتي أقيمت فوق أرضه وأرض أجداده، تتمثل في أحاديثه عن هذه الأحداث: طلوع اسبانيا،طلوع افرانسا،اطلوع رايةالمغرب،اطلوع راية موريتان،اطلوع رايةالجزائر وطرح راية فرانسا.. وكأنها أمور وأحداث لاتعنيه لامن قريب أو بعيد...
وهذا كهل صحراوي كان وراء إبله، قرب أمهيريز،إسمه البشير ولد ميلد، صادفته دورية إسبانية،وسألته عن الجنسية وورقة التعريف،فرد على الضابط الإسباني قائلا: أنا جنسيتي هذا الواد: غدار طلحُ عرفته وعرفه جدي وجد جدي، ولكن أنت الذي عليك أن تقدم لي أوراقك، لأنك طارئ على هذه الأرض، وغريب فيها،هي لاتعرفك وأنت لاتعرفها..
أقول: بعد سنة 1966 بعثت كل من إسبانيا وموريتانيا والمغرب بممثلين عنهم يتكلمون باسم الشعب الصحراوي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد انضم الوفد الصحراوي القادم من موريتانيا إلى إخوته القادمين من المغرب وخافت إسبانيا من أن تتولى المملكة المغربية عبر الصحراويين المتواجدين معها تمثيل الصحراويين والحديث باسمهم والدفاع عن حقوقهم….
لذا فرضت إسبانيا بعد ذلك على جميع الصحراويين الموجودين تحت سلطتها بالمناطق المحتلة، أن يقوموا بالتوقيع على اعتبار أن إسبانيا لها الحق في التحدث باسم الصحراويين وتمثيلهم، وهو مايعرف لدى الشعب الصحراوي بعام السنيات. وكان ذلك سنة 1967،وقد اعتصم العديد من الشيوخ، بما فيهم خطري ولد الجماني، ومحمد مولود ولد أبا علي، بمقر قبر جدهم سيد أحمد الرقيبي بالحبشي. وأضرب عمال الطرق (كوبييرتا) تضامنا معهم. وتأزمت الأوضاع بين إسبانيا والشيوخ، وتدخل صيلة ولد أعبيدا بذكائه ودبلوماسيته، كوسيط وتم الاتفاق على تشكيل الجمعية العامة، من شيوخ القبائل، والتي لها الحق بالتحدث باسم الشعب الصحراوي، والتي بايع رئيسها خطري ولد الجماني الملك الراحل الحسن الثاني أثناء أحداث المسيرة الخضراء. ولكن هؤلاء الشيوخ كان كل واحد منهم يعمل لحساب نفسه وعائلته. والشعب يعيش التفقير والتجهيل والتجويع، وإسبانيا تستغل الفوسفاط، والثروة السمكية الهائلة. ولاتقدم أي خدمات للمواطنين لا في مجال الشغل ولاالتعليم ولا الصحة، ولا التكوين،ولا غير ذلك.. فالعمال الصحراويون في فوسبوكراع، هم أقل العمال راتبا على مستوى إسبانيا،بينما الإسبانيون يحتلون كل المناصب الهامة: التقنيون الساميون، والتسيير، ويتلقون تعويضات لأنهم يشتغلون في الصحراء. ويستفيدون من السكن العائلي عكس الصحراويين الذين لاحق لهم في ذلك. 81 في المئة من الوظائف التقنية والتسييرية المهمة يشغلها إسبانيون. وحتى سنة 1974 نسبة 35 في المئة فقط من الأطفال الصحراويين البالغين سن الدراسة، يتلقون التعليم بالمدارس، ولا يوجد ماعدا مئة طفل صحراوي في التعليم المتوسط. بينما يتواجد ضعف هذا العدد خمس مرات من الإسبانيين في التعليم المتوسط، أما الفتاة الصحراوية، فشبه محرومة من التعليم فأقل من ثمن البنات الصحراويات، تمكن من دخول المدرسة الإبتدائية،بمدينة العيون سنة 1974 أما عددهن في المتوسطة فثلاث تلميذات صحراويات فقط. في كل الصحراء 22 طبيب، 95 في المئة من زائريهم إسبان..
لقد كانت الظروف الموضوعية للثورة ناضجة، وأتت الأقدار بأحد أبناء هذا الشعب، ليحمل المشعل، مشعل الثورة والكفاح من جديد.
إنه محمد ولد سيد ابراهيم بصيري الذي درس بالرباط والقاهرة ودمشق، وتخرج من قسم الصحافة، وأسس مجلة الشموع بالمغرب، مع رفيقه محمد الباهي… قام بعد ذلك بزيارة أقاربه بالصحراء الإسبانية. ولما شاهد الوضع المزري الذي يعيشه الشعب الصحراوي تحت الاستعمار،بدأ يفكر في تنظيم الثورة، ولهذا قضى شهورا طويلة في الحديث مع الناس،في عملية لجس النبض. فكان يناقش مع الكهول حرب المقاومة، وجيش التحرير، والتاريخ كوسيلة للتعبئة. وبالدرجة الأولى مع قاضي السمارة: محمود ولد بيد الله. وكان يناديهم في منزل ابن أخته: ابراهيم ولد لمام ولد الشافعي، وزوجته أفيطمة منت لبصير. ويتقرب من الشباب ويناقش معهم البطالة والعمل في الطرق وبوكراع، ويتنقل بين السمارة والعيون، كان لبقا ذكيا حكيما،عرفه الجميع وأحبه.
في مارس 1969 فتح مدرسة بالسمارة لمحو الأمية وتعليم العربية والثقافة العامة. ومن تلامذتها أولاد المختار ولد بوجمعة ولد بومخروطة، وكان يناقش معهم الأفكار الثورية، كما كان يناقش مع المجندين في الجيش الإسباني. وكان أيوب لحبيب ولد عوبا أو لمن اتصل به من المجندين في الجيش الإسباني،وهكذا قرر بصيري عقد اجتماع لمجموعة من الأفراد يثق بهم. وكان ذلك يوم 12ـ 12ـ1969 بمنزل ابراهيم ولد لمام ولد الشافعي، ليعلن عن تأسيس الخلية القيادية، لمنظمة تحرير وطنية تحمل إسم: “المنظمة الطلائعية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”. وعينوه أمينا عاما للمنظمة، وعبد الحي ولد سيدي امحمد، نائبا له، وأمين الصندوق سيدي ولد لبصير، أمين الاتصال سلامة ولد المامي، ابراهيم غالي أمانة التنظيمات الجماهيرية، وسالم ولد لبصير أمانةالسر (الأرشيف والتقارير). وأدوا القسم بأن لايخونوا العهد، وأن يظلوا مخلصين للمنظمة والوطن. وطلب من كل واحد منهم أن يتصل بكل من يثق فيه، ويعرض عليه الفكرة. وبعد قبوله الانضمام للمنظمة يؤدي القسم ويدفع مبلغا ماليا. والقسم هو أن يضع الإنسان يده على القرآن الكريم ويقسم:
” أقسم بالله العظيم وكتابه الكريم،أن لاأخون وطني وأن أعمل متفانيا حتى آخر قطرة من دمي،من أجل هذاالوطن”.
وبعد ثلاثة أسابيع فقط من تأسيس هذا التنظيم الوطني، بلغ عدد المنتسبين إليه 4700 مواطن صحراوي، وهذا رقم قياسي وسط شعب لم يعرف التنظيم السياسي قط في حياته .. واتخذ القرار لتوسيع التنظيم،ليشمل مختلف المناطق. ولهذا حضر بصيري اجتماعا باربيب بلمغادر،في الهواء الطلق، تم خلاله تقييم العمل خلال الشهور الثلاثة الماضية، وحضره بالإضافة للخلية القيادية. الناه ولد جولي، وحمودي ولد البو، ومحمد سالم ولد أبرير، وسلامة ولد المراكشي، ومولاي أحمد ولد بابا،ومحمد سالم ولد عبدالمجيد. وبعد التقييم اتخذوا قرار الاتصال بالجنوب، وعقد اجتماع آخر لتوسيع الخلية القيادية بعد أن تكاثر عدد المنضمين للتنظيم، وتعيين نواب مسؤولين عن المناطق: عبدالحي وعبد الوهاب ولد حامي، نواب على المستوى الوطني، وسيد أحمد ولد رحال، نائب بالعيون، وأمربيه ولد البوخاري بأجديرية، ونائبه اندادي ولد أعلي ولد عبدي. اتفاريتي: اعلي ولد ابراهيم ولد حمادي، ولرباس ولد الجماني. حوزة: سيد ابراهيم ولد سلامة ولد اجدود، وسعيد ولد ابراهيم ولد اعلي امبلال…
ويوم 8 يونيو عقد اجتماع موسع في العيون، ضم مسؤولي المناطق، وتم خلاله تقديم مذكرة للمطالبة بالحكم الذاتي مسجلة بصوت بصيري، للحيلولة دون إسالة الدماء. لهذا بدؤوا بالإعلان عن التنظيم بعد اكتشافه، وبدؤوا يناقشون علنا مطالبهم: الحقوق والتعليم والشغل، والتكوين والعلاج، والمساواة مع الإسبانيين الأجانب…
واجتمعت قيادة التنظيم مساء 16 يونيو 1970 وطلبوا من بصيري مغادرة المنطقة، فرفض ذلك رفضا قاطعا قائلا: الموت معكم أو السجن. لكيلا يقال دفعتكم للموت وتخليت عنكم، وهنا تظهر عظمة الرجال الذين يصنعون التاريخ، ويوم الأربعاء 17 يونيو 1970، ولما نظمت السلطات الاستعمارية، مظاهرات لتأكيد الانضمام لإسبانيا. بنت خيامها قرب مقر الكاتب العام،ومعها الشيوخ. بنت الحركة خيامها بحي الزملة، وحضرتها الجماهير من كل المناطق وطافوا شوارع المدينة باللافتات والشعارات: الصحراء للصحراويين. وفي الخامسة مساءا حاصرتهم الشرطة، وأطلقت الرصاص فوق رؤوسهم، فهجمت عليهم الجماهير بالحجارة والعصي، وتدخل اللفيف الأجنبي (الترسيو) وبدأت المجزرة،وسقط الضحايا: الجرحى والقتلى الله وحده الذي يعرف عددهم. لأن إسبانيا فرضت حظر التجول، وقامت بدفن القتلى في تلك الليلة، وشن حملة اعتقالات واسعة،وسط صفوف مناضلي الحركة. وكانت الاتصالات مباشرة مع بصيري في دار خديجتو منت عبد لكريم،حيث اتصل به لرباس ولد الجماني، وتوجهوا لمنزل خطري ولد الجماني.
في الساعة الثانية صباحا من يوم 18 يونيو تم اعتقال زعيم الحركة من طرف البوليس الإسباني… وفي نفس الليلة بدأت عمليات الاعتقالات والاستنطاقات، والتعذيب. وأحكمت إسبانيا قبضة من حديد على المنطقة، وحولتها إلى سجن كبير. وبعد التعذيب والاستنطاقات بدؤوا بتوزيع المعتقلين:
5 من المجندين أرسلوا للسجن بتناريفي بالجزرالخالدات،وهم: مولاي أحمد ولد بابا، عبدالحي ولدسيدي امحمد،سلامة ولد المامي، احمد ولد لحبيب، محمد ولد العك. أما بسجن القنديل بالداخلة: أمبارك ولد ميارة، الغيلاني ولد البراي، بدا ولد أحمد الحمادي، أحمد ولد القائد صالح، سعيد ولد محمود ولد بهاها، محمد محمود، الحنافي ولد لبصير، محمد ولد الحسان، الحسين ولد علا، موسى ولد لوشاعة ولد لبصير، محمد ولد عبد الرحمان ولد الرباني، سيد احمد ولد امبارك ولد رحال وسيدي ولد اليساعة ولد لبصير. أماسجن بئر أنزران ففيه: سالم ولد سيد ابراهيم ولد لبصير، البشير ولد اسويليكي ولد بلقاسم وابراهيم غالي. الكلتة: أيوب لحبيب..
وفي رأس السنة من عام 1971 عقدت الجماعة اجتماعا بالداخلة حضره الحاكم العام، الذي طلب منهم وجهة نظرهم عن الوضع بعد القضاء على الحركة. ولم يتكلم ماعدا شيخ السواعد المامي ولد معطلا رحمة الله عليه،الذي قال: أبناؤنا معتقلون ويجب إطلاق سراحهم فهم مهمون، وإذا تواصل اعتقالهم فنحن لن نستطيع أن نضمن لكم نتيجة مايقع. ويوم 5 يناير1971 أطلق سراح السجناء،وبعد ستة أشهر من ذلك تم إطلاق سراح المجندين. إلا أن بصيري لم يظهر له أثر.
وقد جاء في كتاب المغرب العربي الكبير من الإستقلال إلى سنة 2000 للكاتب الفرنسي بولبالطا،وفي الصفحة 130: أن صحفيا إسبانيا ينتمي لمجلة كامبيو 16: لاندابوروLandaburu أكد له أنه قد شاهد بصيري خلال تحقيق صحفي وهو في وضعية سيئة، حيث تم تعذيبه حتى الموت. ومن جهة أخرى أكد بيريث ديليما لوفد صحراوي بمادريد في الثمانينيات. أن بصيري تم تعذيبه، وبعد ذلك أعدم من طرف القوات الإسبانية بالأغراد غرب مدينةالعيون. وهكذا أثبت بهذه الإنتفاضة التي تم إجهاضها بالدم والرصاص والسجون، فشل تحقيق المطالب السياسية بالوسائل السلمية….
هذه بخلاصة أحداث الحركة والانتفاضة ونهايتها، ولكن المهم من مداخلتي هاته المتواضعة هو أن أعطي لهذا الرجل الشاب والزعيم، الشريف محمد ولد سيد ابراهيم بصيري، الذي نحيي ذكراه اليوم في موطن إزدياده، ووالده وإخوته: سيدي لحبيب وسيد المصطفى رحمة الله عليهم يستمعون إلينا في قبورهم غير بعيد من قاعة المحاضرة، تحت قبة ذلك الضريح،وهم مؤسسوا هذه الزاوية الشريفة، وأبناء إخوته وأقاربه، سادة وأساتذة شرفاء يعيشون معنا هذا الحدث ويشرفون على تنظيمه.
لأقول وبصراحة: على كل من يعيش حاليا حرا سعيدا كريما في مدن ومداشر الصحراء أن يتذكر ذلك الرجل المجاهد الذي ضحى بكل شيء، وهو في ريعان شبابه، من أجل كرامة وحرية الصحراء وأهل الصحراء…
فمن هو هذا الشاب العظيم؟ الذي أجمع كل الصحراويين رغم اختلاف مذاهبهم، أن انتفاضته التاريخية هي التي عجلت بخروج الاستعمار الإسباني من الصحراء الغربية، 5 سنوات بعد ذلك… ويكن له كل الصحراويين في الصحراء وحتى في المخيمات كل التبجيل والتقدير والاحترام…
هو محمد ولد سيد ابراهيم ولد سيد امبارك، ولد سيد ابراهيم لبصير، ازداد هنا بهذه المنطقة المسماة ببني اعياط، تكذيبا لما عودتنا عليه جبهة البوليساريو في أدبياتها من أنه مزداد في مدينة السمارة، بينما أكد لي أحد أقاربه أن والدته الشريفة: الزُهرة منت الحاج صالح بوقطاية، من قبيلة الشرفاء لعروسيين، لم تتجاوز في حياتها، قط، جنوبا مدينة طانطان. والده مدفون هنا مع أخويه سيد لحبيب وسيدي المصطفى بالضريح بالزاوية، وأخوه الخليفة الأول سيدي عبد الله وإخوته: سيد المختار ،سيد العربي، سيد الحسن، سيدي عبد القادر، سيدي عبد السلام، ومولاي اعلي. مدفونين هنا بمقبرة الزاوية ببني عياط…
وفي الحقيقة، لايتسع المجال هنا لإعطاء هذا الرجل العظيم حقه ضمن فقرة من محاضرة وقتها محدد من طرف المنظمين. ولكن لايمكن لأحد أن يتحدث عن كفاح الشعب الصحراوي المعاصر وانتفاضة الزملة التارخية، من دون أن يتحدث عن العقل المفكر الذي خطط لها وفجرها وقادها واستشهد من أجلها ليكون نبراسا ينير الطريق لمن يريد السير على خطاه…
ففي أرض البيظان وتاريخِها هناك مع المبارزة كان لها الدور المؤثر في التاريخ العام لمجتمع البيظان ولأرض البيظان. أشعلوا شرارة الثورة، فمنهم من كتب له النصر،ومنهم من تكالبت عليه القوى المعادية والأوضاع الجهوية والدولية…
إن أول مشعل هو مشعل عبدالله بن ياسين، في بداية الألفية الثانية الذي أنار المنطقة ووحدها وأسس دولة المرابطين وزاد عمر الإسلام بالأندلس أربعة قرون أخرى… وبعدهم شعل المجاهد ناصر الدين في بداية القرن السابع عشر الذي تحطمت أحلامه بإحياء مجد المرابطين، بعد حرب شريب، ومدى تأثير ثورته على التاريخ الحديث لمجتمع البيظان… وبعد ذلك مشعل الشيخ ماءالعينين في نهاية القرن التاسع عشر، والذي قاد الجهاد ضد الفرنسيين في الصحراء وموريتانيا والمغرب،فتحطمت آماله أمام التحالف الفرنسي في معركة تادلا غير بعيد من هنا… وبعد ذلك ضد ولده الشيخ أحمد الهيبة في معركة بوعثمان على مشارف مراكش. وأخيرا مشعل محمد سيد ابراهيم بصيري نهاية الستينيات من القرن الماضي، والذي مازال متواصلا إلى يومنا هذا، تتعاقب الأجيال على حمله جيلا بعد جيل…
لقد عاش الشهيد محمد سيد ابراهيم بصيري، رحمة الله عليه، تربى وترعرع وسط عائلة شريفة معظم أفرادها مابين الشيخ أو الإمام أو الولي الصالح أو حافظ القرآن، أعطاهم الله من الكرامات ما يحير الأذهان ويشهد بذلك كل من عرفهم من عرب وبربر، في موريتانيا وفي الصحراء وفي المغرب، ولاغرو أن يرث الشهيد من ثلته حب الجهاد والاستشهاد ضد النصارى ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة المنكر والفساد والضلالة…
فقد كان رحمة الله عليه عبقريا في كل شيء،فيبعد نظره وتحليله ورؤيته للأشياء. تجلت عبقريته في نباهته وفطنته التي ظهرت في عمر مبكر جدا لقد كان عقله أكبر من عمره، كانت شجاعته وجرأته مضرب الأمثال، وصبره وجلده لتحمل مشاق السفر مشيا على الأقدام يتذكرها جيدا كل رفاقه الذين عاشوا معه السنوات الأولى للانتفاضة.
عبقريته تجلت في تفوقه في الدراسة على أقرانه. وبرزت في درجة الإقناع والمجادلة والخطابات النارية، فقد كانت كلماته أشد وقعا من الرصاص… كانت ثقته وقناعته في الصحراويين،أينما تواجدوا،كبيرة. كان يتعامل مع الجواسيس الصحراويين ويختلط بهم ويحاول تعبئتهم ولا يحملهم المسؤولية، بينما يحملها لمن كان سببا في ذلك ألا وهو العدو: الاستعمار الإسباني، الذي أغلق أمامهم كل أبواب العيش والرزق ما عدا التجسس واشكامة..
عبقرية الزعيم بصيري، تتجلى في إيمانه بانعدام المستحيل، ونظرته الثاقبة ذات الأفق الواسع، والقدرة الفائقة على الإقناع، نتيجة لقوة الإيمان، ووسع الثقافة، والقدرة على تقديم الحجج، والصدق في الهدف والتشبث به،وامتلاك لغة الشعب، وكأنه لم يعش لحظة واحدة خارج المجتمع. صلابته في الصعاب وتجلده تحت التعذيب…
وعبقرية الزعيم محمد سيد ابراهيم بصيري، لايمكن أن نتحدث عنها بمعزل عن مسألة العمر وقصر التجربة. ففيه تجسدت العظمة في السلوك والممارسة، فقد جمع بين الخطاب التحريضي في الداخل والمرونة والنضج في التعامل والمفاوضات مع العدو الإسباني.فحصيلة عمره القصير هي خلق وتجميع كافة أسباب النصر، وإقامة الأسس في كل ميدان: تجميع رأس المال الذي لاينقصه إلا التصريف الجيد: قاعدة شعبية منظمة ومؤهلة، لقد خلق كافة أسباب النصر إذا مادبرت الأمور بالطريقة المثلى.
كان الزعيم عبقريا في أحاديثه، فمع الإنسان البسيط يتحدث بلغة بسيطة، ويبتعد كل البعد عن اللغة السياسية المعقدة، ويقنعه بالاستدلال بالأشياء المحيطة به والتي يعرفها جيدا. وحين يتحدث مع الشيوخ يتكلم لهم عن التاريخ،والبطولات، وأمجاد المقاومة، أما مع السياسيين فله لغة أخرى تماما،فهو يكلمهم بلغة العصر.. كان رجلا مناسبا لكل شيء،ويتعلم كل شيء.
عبقريته تتجسد في تواضعه للناس وهو رفيع.
لقد قال لي أحد الكهول الصحراويين الذين عرفوه عن قرب خلال الحركة: محمد سيد ابراهيم بصيري، رجل لن يتكرر مرتين، حالة فذة ونادرة، معجزة ظهرت فجأة وانطفأت،لن تجدوه في أي مكان،لايوجد له مثيل في العالم.. كان يستطيع أن يقود العالم لو عاش. كان فريد زمانه في كل شيء، كان يقود السياسة ويصنعها. لقد استشهد لأنه كان يتكلم كثيرا عن ضرورة التضحية بالدم، وقال إن الإستعمار لن يقضي عليه سوى الدم البطل. وفعلا أراد أن يكون مثالا في الإستشهاد، لهذا رفض النجاة بنفسه، لما وفر له المناضلون سيارة للفرار فيها نحو الحدود، وواجه الجلادين الديكتاتوريين الإسبان بقوة وشجاعة. كان يقول لانستطيع أن نتكلم عن التضحية،وإنما يجب أن نقود الشعب إليها.. الزعيم رجل لايخفض رأسه أبدا،رأسه دائما مرفوع في السماء،حين يتكلم وحين يستمع. ودائما حسب من عرفه عن قرب قالوا لي، لم نره نائما في النهار أبدا، رجل عجيب، يتلاءم مع أي شكل،لايتعالى ولايتكبر،لايعتبر نفسه مسؤولا. ملابسه كانت هي ملابس المواطنين العاديين. إذا أعطاه أحدا من أصدقائه أو أقاربه لباسا جديدا يعطيه لغيره. لقد كان يقول للقريبين منه، من أراد أن يقود أمة عليه أن يكون مثاليا في كل شيء،حتى في ملابسه. كان يقسو على نفسه ويعاملها معاملة فظة، لايهمه لبس أم لم يلبس، لايهمه أكل أم لم يأكل، لايعرف النوم ولا الراحة. لايترك مرافقيه ومساعديه يستريحون. لهذا لم تكن له حاشية…
كان عبقريا عندما أصدر أوامره ببروز التنظيم وسيطرته على الشارع خلال المظاهرات التي نظمها الاستعمار والشيوخ…وكان عبقريا،عندما قرر الاستشهاد من أجل المبادئ التي آمن بها. ويجسد ميدانيا أن القائد هو الذي يموت من أجل أن يحي االشعب وليس العكس. لقد عاش عظيما ومات عظيما.
لقد كان عبقريا عندما مات في ريعان شبابه، فالعباقرة لايعمرون طويلا. ورغم كل هذا ليس له قبر يزار أو توضع عليه الأزهار.. فمن المسؤول…؟
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته…
[wpdevart_youtube]ZLwEvh0uu1I[/wpdevart_youtube]