مكانة الأم -2-

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله الذي بهداه هدانا، ومن خلقه اصطفانا تفضلا منه وامتنانا، وأنزل القرآن هدى للناس وبيانا، فقال جل وعلا: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا سرا وإعلانا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجب طاعة الوالدين وحرم عقوقهما وقال: “إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد العظماء وأشرف الكرماء، القائل:”الجنة تحت أقدام الأمهات”، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به، أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية بدأنا الحديث عن مكانة الأم في ديننا الإسلامي الحنيف، وبيننا أفضالها على بنيها، وكيف أن الله تعالى أنزلها منزلة عظيمة وأوصى بها خيرا، رفع من مكانتها، وجعل برها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية، كما جاء في حديث الرجل الذي جاء يسأل النبي صلة الله عليه وسلم عن أحق الناس بصحبته، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثا أمك، وفي الرابعة قال له أبوك، أيها الإخوة المؤمنون، بر الأم يعني إحسان عشرتها، وتوقيرها، وخفض الجناح لها، وطاعتها في غير المعصية، والتماس رضاها في كل أمر، مهما دق أو جل، حتى ولو تعلق الأمر بأعظم أنواع العبادات الذي هو الجهاد في سبيل الله، فإذا كان فرض كفاية لا يجوز الانخراط فيه إلا بإذنها، فإن بر الأم نوع من الجهاد، ومن الأحاديث النبوية الدالة على مكانة الأم في الإسلام قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال صلى الله عليه وسلم: “هل لك من أم؟” قال: نعم، قال: “فالزمها فإن الجنة عند رجليها”، ومن عظيم حق الأم في ديننا الإسلامي ورعايته للأمومة وحقها وعواطفها أنه جعل الأم المطلقة أحق بحضانة أولادها من أبيهم وذلك تقديراً لمكانتها، جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: “يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتِ أحق به ما لم تنكحي”، ومن فاته شيء من بر أمه، فإن الإسلام فتح له قنوات لأن يقوم ببرها ولو بعد مماتها، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أذنبت، فهل لي من توبة؟ فقال: “هل لك من أم؟” قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟، قال: نعم، قال: “فبرها”. أيها المؤمنون، إذا كان الإسلام يوصي ببر الوالدين عموما، والأم بصفة خاصة، فإنه يحذر كذلك من خطورة عقوق الأم أو الأب، ويجعله سببا لغضب الله وتعجيل العقوبة، بل إن عقوق الأم يورد صاحبه سوء الخاتمة، والعياذ بالله، فعن عبد الله بن أبي أوفى (ض) قال: كنا عند النبي صلي الله عليه وسلم، فأتاه آت، فقال: شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: كان يصلي؟ فقال: نعم، فنهض رسول الله صلي الله عليه وسلم ونهضنا معه، فدخل على الشاب فقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع قال: لم؟ قال: كان يعقٌ والدته، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أحية والدته؟ قال: نعم قال: ادعوها فدعوها، فجاءت فقال: هذا أبنك؟ فقالت: نعم، فقال لها: أرأيت لو أججت نار ضخمة، فقيل لك: إن شفعت له خلٌيْنّا عنه وإلا حرقناه بهذه النار أكنت تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله إذا أشفع له قال: فأشهدي الله وأشهديني قد رضيت عنه، قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم يا غلام قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: “الحمد لله الذي أنقذه بي من النار”، وعن المغيرة بن شعبة (ض) أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ‘إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال”، وعن سيدنا أبي بكر (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلي يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات”، وقال صلى الله عليه وسلم: “لو علم الله شيئا أدني من ‘الأف’ لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار”، ويشير الحديث إلى قوله تعالى: “فلا تقل لهما أف”، أي أدنى كلمة للتأفف، لأن حقهما على الابناء عظيم، واعلموا أيها الإخوة المؤمنون، أن أعمال الطاعات التي يقدمها الانسان في بره بالناس تكون في مدة حياتهم، ما داموا ينتفعون بها، إلا بر الوالدين فإن القيام بحقه يكون في حياتهما، ويكون أيضا بعد وفاتهما، إعظاما لحق الوالدين، وتقديرا من الاسلام لهما، وإعلانا بأهمية البر بهما، فعن سيدنا أبي بكر (ض) قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا؟” قلنا: بلي يا رسول الله، قال: “الاشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”، جعلني الله وإياكم من البارين لوالديهم، الحريصين على خدمتهم، والدعاء لمن توفاه الله لجواره منهم، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم المفلحون. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أوجّه لكم هذا النداء الذي وجهه أحد الدعاة فهو يقول: يا معشر الأولاد من بنين وبنات، ويا فلذة الأكباد، يا من أصبحتم أو ستصبحون بإذن الله آباء وأمهات. منذ سنين خلت كنت ابنًا مثلكم، وكان لي أم وأب يحنوان عليّ ويريان الدنيا جميلة بي حلوة بوجودي، وكنت سعيدًا بقربهما، فلما فقدت أبي فقدت شطرًا من السعادة وجزءًا كبيرًا من النعيم، وجرح قلبي موته، فبقيت سنين أبكي، ثم انحصر بعده نعيم الحياة ولذاتها في أمي، وكانت والله أمًا طيبة، بقيت ترعاني بدموع عينيها، والتمست سعادتي بشقائها وراحتي بتعبها، وكنت أجد منها حنانها وعطفَ أبي، وأعدّها رأس مالي في الدنيا وزادي إلى الآخرة، ثم حلّ بها الأجل، فلحقت بأبي، فتصدع شرخ شبابي وهو يوقد على أشده، وتضعضعت أرجاء حياتي وهي بالغة قوتها، ووهب الله لي البنين والبنات، فلم ألمس فيهم لذة الأبوة ومحبتها، لأني كنت أسعد بشقاء والديّ ويسعد اليوم أولادي بشقائي، وأستريح بتعبهما ويستريحون بتعبي، وكانا يبكيان لألمي وأبكي اليوم لألمهم، فشتان بين تجارتين، لقد كنت بارًا بهما في حياتهما، أؤثرهما على نفسي، وأعمل ما يرضيهما، وأقبل أيديهما صباحًا ومساءً، احترامًا لهما واعترافًا بفضلهما، ولا والله ما وجدت ألين منها. فأين هذا من أبناء هذا الزمان الذين فسدت أذواقهم، وماتت مشاعرهم، واضمحلت عزتهم؟ لا ينفذ أحدهم أمر أمّه إلا إذا دعت عليه وبلغت صيحاتها ودعواتها أقصى الحي، ولا يلبي طلب أبيه إلا إذا عبس في وجهه وقطب وانهال عليه سبًا، وقلما تجد ولدًا يكتفي بإشارة ويفهم بنظرة ويتعظ بتأديب حسن. فيا من تشكو من سوء الحال، ويا من كلما سلكت طريقاً أغلقت دونك ودونه الأبواب، تب إلى الله توبة صادقة، والزم قدم أبويك فثمة الجنة، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا عقوق الوالدين، فإن العقوق بجميع وجوهه نقص في العمر وضيق في الرزق وفسادٌ في الأبناء، فمن عقّ والديه عقّه أبناؤُه، فمن كان له أبوان فليهنأ بهما، وليحرص عليهما، وليسعَ جهده في إرضائهما، لأنه أوتي سعادة الدنيا والآخرة، والوالدان تاج لا يراه إلا الأيتام، ومن فقد أحدهما فقد خسر نصف السعادة، فليحرص على نصفها الآخر قبل أن يزول، ومن فجعه الدهر بهما فلا ينساهما من صلاته ودعواته، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم،. الدعاء.

 

 

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *