الأرزاق التي يدوم نفعها

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام مسلم وغيره من أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”، وروى ابن ماجه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ”.

أيها الإخوة الكرام، تتمة لما بدأناه في الخطب الماضية بالتطرق لموضوع الرزق والجواب عن الإشكالات التي يثيرها، فإننا سنتطرق اليوم لنوع آخر من أنواع الأرزاق، وهي الأرزاق التي يدوم نفعها في الدنيا والآخرة، وهذا النوع من الأرزاق هو الذي ينبغي أن يحرص كل عاقل أن يكون له نصيب منه، نعم أيها الإخوة والأخوات، هناك نوع من أنواع الرزق يستمر نفعه بعد الموت، فإذا مات الإنسان انتهت أرزاقه الحسية الظاهرة، أما أرزاقه المعنوية الباطنة، فإن الإنسان ينتفع بها في حياته، وبعد الموت في البرزخ وفي جنة عرضها السماوات والأرض، وأجل الأعمال هي التي تبقى وتستمر بعد موت صاحبها، وأخطر السيئات هي السيئات التي تستمر بعد موت صاحبها.

فإذا مات الإنسان انقطع عمله كما سمعتم، وتوقفت حسناته التي يستحقها على أعماله ، إلا بسبب أعمال معينة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، كالصدقة الجارية، أو العلم النافع الذي تركه، أو دعاء الولد الصالح النافع من بعده، لذلكم تتأكد العناية بالأبناء تربية وتوجيهاً وتثقيفاً، وقد ثبت أن الواحد منا يكون في الجنة يثيبه الله عز وجل بالرزق الوفير، ويرفع مقامه في الجنة، ويتساءل يا رب من أين لي بهذا؟ فيقال له: هذا من دعاء ولدك لك، أنت ربيته، واعتنيت به، واخترت له زوجة صالحة ترافقه، فالابن إذا عملا صالحا، وكان أبوه هو الذي دله عليه وعلّمه إياه، فإن الأب يؤجر على ذلك، ولهذا قال أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ مثل أجور أمته، لأنه هو الذي دلهم على الخير وأرشدهم إليه.

أيها الإخوة الكرام، هناك العديد من الأعمال نستطيع أن نقوم بها ويستمر نفعها بعدنا، كالمساهمة في بناء المساجد وتأسيسها أو إضاءتها أو دعم ماتحتاج إليه، أو بناء مراكز لإيواء الأيتام، أو مستشفيات ومستوصفات، وغيرها من المشاريع التي تنقل الناس من البطالة والعمل في الحرام، إلى العمل في مشاريع الحلال والإنتاج، وكل الأعمال التي تنفع المسلمين الفقراء داخلة في ذلك، كدفع ثمن الدواء عنهم أو مداواتهم بثمن رمزي والمساهمة في مساعدة الشباب على الزواج والإحصان والعفاف، فعندما يريد الإنسان أن يصل إلى الله، يتفتق ذهنه عن أعمال طيبة جداً، هذه الأعمال ترفعه عند الله وتجعل له مكانة عنده، والإنسان مكانته عند الله بحجم وبمقدار عمله، فتخفيف المآسي عن المرضى وتخفيف مآسي الفقراء وتخفيف مآسي الشباب، كل ذلك داخل في الصدقات الجارية، فلذلك: ابحثوا عن صدقة جارية تنفعكم بعد الموت.

وفي هذا المقام أحب أن أقص عليكم قصة تتعلق بسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، بعد الهجرة النبوية، وزيادة أعداد المسلمين زاد الاحتياج إلى الماء، وكان بئر رومة من أكبر الآبار وهو المورد الرئيسي للماء بالمدينة، إلا أن هذه البئر يملكها يهودي يستغلها ويبيع ماءها، فلما علم عثمان رضي الله عنه بالقصة، ذهب إلى اليهودي وأخبره أنه يريد أن يشتريَ منه البئر فرفض اليهودي، فعرض عثمان أن يشتري نصف البئر فيكون يوماً له ويوماً لليهودي يبيع منه، فوافق على أساس أن عثمان تاجر شاطر وسيرفع سعر الماء فيزداد مكسب اليهودي، لكن حدث العكس فقد قل الطلب على الماء حتى انعدم تماما فتعجب اليهودي وبحث عن السبب، فاكتشف أن عثمان جعل يومه لوجه الله يأخذ فيه الناس حاجتهم دون مقابل، فأصبح الناس يشربون جميعاً في يوم عثمان، ولا يذهبون للبئر في يوم اليهودي، فشعر اليهودي بالخسارة وذهب إلى عثمان رضي الله عنه وقال له أتشتري باقي البئر فوافق عثمان واشتراه مقابل 20 ألف درهم وأوقفه لله تعالى يشرب منه المسلمون، بعد فترة جاءه أحد الصحابة وعرض على عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يشتري منه البئر بضعفي سعره فقال عثمان عُرضَ علي أكثر، فقال أعطيك ثلاثة أضعاف فقال عثمان عرض علي أكثر حتى وصل إلى تسعة أضعاف فرفض عثمان، فاستغرب الصحابي وقال لا يوجد مشترِ غيري فمن هذا الذي أعطاك أكثر مني؟ فقال عثمان: الله أعطاني الحسنة بعشرة أمثالها، لقد أوقف عثمان البئر للمسلمين، وبعد فترة من الزمن أصبحت النخيل تنمو حول هذه البئر، فاعتنت به الدولة العثمانية حتى كَبُر، وبعدها جاءت الدولة السعودية واعتنت به أيضا حتى وصل عدد النخيل ما يقارب 1550 نخلةً، فأصبحت الدولة ممثلة في وزارة الزراعة تبيع التمر بالأسواق وما يأتي منه من إيراد يُوزع على الأيتام والمساكين، وهكذا زكا المال ونما، والعجيب أن الأرض مسجلة رسميا بالبلدية باسم عثمان بن عفان، سبحان الله هذه تجارة مع الله بدأت واستمرت طوال 14 قرنا فكم يكون ثوابها ؟ هناك أعمال صالحة كثيرة، إلا أن هناك أعمال ذات مردود كبير، فكروا في عمل صالح أربح وأدوم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فيا عباد الله، هناك أمر تابع لما تكلمنا عنه، ويسأل عنه الكثير من الناس، وهو وصول الثواب للأموات بغض النظر عن علاقتك بهم، أقول في الجواب: بأن المتفق عليه عند علماء المسلمين أن ثواب الأعمال يصل إلى الموتى، وأن لكل واحد أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كانت أو قراءة أو غيرهما، أخرج الدارقطني أن رجلا جاء فقال: يارسول الله، إنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم:”إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك”، ومما له علاقة بالموضوع أن بعض الناس يستشكل عليه قوله عز وجل:”وأن ليس للإنسان إلا ماسعى”، ففي هذه الآية القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما أخبر أنه لايملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل إنه لاينتفع إلا بما سعى، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف الذكر:”إذا مات ابن آدم انقطع عمله”، فهو صلى الله عليه وسلم لم يقل “انقطع انتفاعه”، فالمنقطع شيء والواصل شيء آخر. والحمد لله رب العالمين.

الدعاء.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *