كيفية إزالة الشك والأوهام في أمر الرزق وأنواع الرزق

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام البغوي في شرح السنة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن روح القدس،أي جبريل، نفث في روعي، أي تفل في قلبي، والمراد ألقى الوحي فيه من غير أن أسمعه أو أراه، قال:”لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله” أي ثقوا بضمانه، “وأجملوا في الطلب” أي اطلبوا الرزق بطريق حلال بلا حرص ولا تهافت على الحرام، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تعالى لاينال ماعنده إلا بطاعته”، والإخلاص واليقين في رجاء الرزق منه لا من المخلوقات، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: “من جعل الهموم هماً واحداً، هم آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك”.

أيها الإخوة الكرام، تتمة لما بدأناه في الخطبة الماضية، حيث تكلمنا عن خوف العباد من الفقر مع ضمان الله للأرزاق، سنتطرق في خطبة هذا اليوم بحول الله للشكوك التي يثيرها هذا الموضوع في نفوس بعض الناس ويحرمهم بالتالي من لذة العبادة والأنس بالله، وأساليب أولياء الله والعلماء العاملين في إزالة هذه الشكوك من القلوب، دون إغفال الكلام على أنواع الرزق وأقسامه.

أيها الإخوة الكرام، إن المؤمن إذا أيْقن أنّ رزقه بيد الله وحده، وأنّ أحدًا لا يستطيع أن يزيده ولا أن ينقصهُ، إذا آمن الإنسان هذا الإيمان المبني على التأمّل والتدبّر في آيات القرآن، انقطَعت علائقه مع بني البشر، وارتبط مع خالق البشر، قطع أملهُ من الناس وارتبط بربّ الناس،الآيات التي تتكلم عن موضوع الرزق وضمانه من قبل الخالق قد تقترب من مائة آية، وإذا تأمّلنا وتدبّرنا وإذا صدَّقنا ربّنا عز وجل، كانت حياتنا حياةً أخرى ليس فيها تحاسُد ولا تباغض ولا عُدوان ولا طغيان ولا تعدي، الحياة التي يعيشها الناس من دون قِيَم ومن دون إيمان هي حياة الذئاب، كلٌّ يتمنَّى أن يأخذ رزق أخيه ظلمًا وبهتانًا، أما إذا آمنتَ أنّ أجلك بيَدِ الله وحده، وأنّ رزقك بيَدِ الله وحده، وقد أمرك أن تسعى فسَعَيْت فهذا شأن المؤمن الصادق.

أيها الإخوة الكرام هناك آيات كريمة وأحاديث شريفة وأقوال للسلف كثيرة في موضوع ضمان الرزق، غسلت الأمراض وأزالت الشكوك من قلوب عباد الله، حتى حصل لهم اليقين الكبير فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم، وسأكتفي بالوقوف عند بعضها، روى الإمام الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ، وقال العلامة الرباني الإمام المحاسبي رحمه الله قلت لشيخنا: “من أين وقع الاضطراب في القلوب وقد جاء الضمان من الله عز وجل؟ قال: من وجهين من قلة المعرفة بالله، وقلة حسن الظن بالله، ثم قال: قلت: شيء غيره ؟ قال: نعم، إن الله عز وجل وعد الأرزاق وضمنها، وغيب الأوقات ليختبر أهل العقول، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين صابرين متوكلين، لكن الله عز وجل أعلمهم أنه رازقهم وحلف لهم، وغيب عنهم أوقات العطاء، فمن هنا عرف الخاص من العام، وتفاوت العباد فمنهم ساكن، ومنهم متحرك، ومنهم ساخط، ومنهم جازع، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين”، ودخل جماعة على الإمام الجنيد رحمه الله فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه منه، قالوا: فنسأل الله ذلك؟ فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا: ندخل البيت فنتوكل، فقال: التجربة شك في أنه تعالى ضامن للرزق، ثم قالوا له: ما الحيلة؟ قال: الحيلة في ترك الحيلة والاعتماد بالقلوب على الله والاشتغال بما أمر به”.

ومن القصص التي تذكر في هذا المقام أن الحسن بن علي رضي الله عنهما ضاق ضيقة شديدة، وكان عطاؤه من معاوية كل سنة مائة مائة ألف، فحبسها عنه، فدعا بدواة ليكتب إليه ثم أمسك، فرآه عليه الصلاة والسلام يقول له :كيف أنت؟ فقال بخير يا أبت وحدثه بذلك، فقال له: دعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تذكره نفسك، فقال كيف أصنع؟ قال: قل:” اللهم اقذف في قلبي رجاءك واقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجو أحدا بعدك، اللهم ما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه أملي ولم تنته إليه رغبتي ولم تبلغه مسألتي ولم يجر على لساني مما أعطيته الأولين والآخرين من اليقين فاخصصني به يارب العالمين، قال فما ألححت بهن أسبوعا، حتى بعث إلي معاوية بألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقلت الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يخيب من رجاه ومن دعاه ولا يقطعه، فرأيته صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنت؟ قلت: بخير وحدثته حديثي، فقال: هكذا من رجا الخالق ولا يرجو المخلوق. المهم إذن هو أن نعلق هممنا بالله تعالى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فياعباد الله، وبخصوص أقسام الرزق وأنواعه أقول: إن أوَّلُ وهْمٍ يتوهَّمه الناس في موضوع الرّزق أنَّ الرّزق هو المال، وهذا وهْم معيب، أوَّلاً، فالمال أحد أنواع الرّزق، ولكنّ الصّحة رزق، والعلم رزق، وطاعة الله رزق، والحكمة رزق، والزوجة الصالحة رزق، والزوجة العفيفة رزق، والأولاد رزق، والمأوى رزق، والسمعة العطرة رزق، فالمال أحد أنواع الرّزق، وهذه هي الحقيقة الأولى، المال ليس هو الرّزق، ولكنّه بعض الرّزق، والحقيقة الثانية؛ أنّ الرّزق هو ما انتفعْتَ به من مال، أو من طعام، أو من شرابٍ أو من مأوى، أو من علمٍ أو من مهارةٍ أو من خبرة أو من صنعة أو من حرفةٍ أو من صحة أو من حواسّك؛ هذه كلّها أرزاق، ولكنّ الذي لمْ تنتفِعْ به ليس رزقًا، إنّه كسْبٌ، وهذا فرْقٌ دقيق بين الرِّزق وبين الكسْب، فالرِّزق إذن هو ما أكلْت فأفْنيْتَ أو لبِسْتَ فأبْليْت أو تصدَّقْت فأبْقَيْت، وأما مافاض عن أكلك وعن لبْسِكَ، وعن أعمالك الصالحة فليس لك، اكْتسبْتَهُ بِجُهدك ومحاسبٌ من قِبَل المولى جلّ وعلا كيف اكْتسبْتهُ؟، وقد يتساءل بعض الإخوة والأخوات كيف أنَّ الرّزق كلّ ما انتفعْتَ به حلالاً كان أم حرامًا، طيِّبًا أو خبيثًا، مَشْروعًا أو غير مشروع؟ أقول في الجواب: قال تعالى:” يَا َيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ”، ومِنْ في هذه الآية للتبْعيض، يعني أن الرّزق قد يكون حرامًا، وقد يكون حلالاً، قد يكون طيِّبًا، وقد يكون خبيثًا، قد يكون مَشْروعًا، وقد يكون غير مشروع، قد يكون حرامًا لذاته، وقد يكون حرامًا لغيره، فالخنزير حرامٌ لذاته مثلا، ولكن أن تأكل طعامًا دون أن تدفعَ ثمنه؛ هذا حرامٌ لغيره، حرام لا لأنّ الطعام محرّم، بل لأنّ طريقة تناوُلك إيّاه محرَّمة، ولهذا الموضوع تتمة سنأتي عليها في خطبة لاحقة بحول الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.

الدعاء

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *