التواضع

الدكتور : عبد الهادي السبيوي

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق الخلق إظهارا لقدرته، وجعل الثواب اظهارا لإحسانه، والعفو عنوانا لرحمته. الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. واشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبَنا  وقرةَ أعينِنا محمَّدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبُه، بلغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصح الأمّةَ وكشف الغمة، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين

أمَّا بعدُ أيها المسلمون : فأُوصيكُمْ وإيَّايَ بتقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ وطاعتِهِ، قَالَ تعالَى :]وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[.
أحبتي في  الله

يقول الله جل وعلا في محكم كتابه  العزيز  “وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً* كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء:37-38].

ويقول أيضا  في سورة الفرقان وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الآية 63 كما يخاطب جل جلاله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم  في سورة الشعراء الآية 215 وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ” وخاطبه أيضا في سورة الحجر بالقول “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ”

وهي دعوة صريحة وامر الاهي منه سبحانه وتعالى  لعباده بالتواضع ،  هذا الخلق الكريم  الذي حث الإسلام عليه .

التواضع صفة محمودة وسبيل لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله سبحانه وتعالى سنّه جارية في خلقه أن يرفع المتواضعين لجلاله، وأن يذل المتكبرين المتجبرين، قال رسول الله (ص): “ما تَواضع أحد لله إلاّ رفعه”. أمّا الذي يسلك مسلك المتكبّرين، فقد باء بشؤم العاقبة، يقول الله عزّ وجلّ في الآية 72 من سورة الزمر: (.. فَبِئْسَ مَثْوَى المُتكبِّرِينَ).

والتواضع في اللغة هو التذلل، وتواضع الرجل إذا تذلّل، وقيل ذل وتخاشع، وهو مأخوذ من تواضعت الأرض، أي انخفضت عمّا يليها، فالتواضع يدل على خفض الشيء. أمّا التواضع عند علماء الأخلاق، فهو لين الجانب والبُعد عن الإغترار بالنفس، حيث قالوا إنّ التواضع هو اللين مع الخلق والخضوع للحق وخفض الجناح.

لتواضع صفة من صفات المؤمنين والمؤمنات وخلق أنبياء الله ورسله كما بين الله ذلك في كتابه ، وقد حَثّ رسول الله (ص)، على الالتزام بها، وحَضّ المؤمنين على الإبتعاد عن التكبر، الذي ينتهي بصاحبه إلى الدَّرْك الأسفل من النار، لأنّ التواضع في غير مَذلّة ولا مَهانة خلق يليق بالعبد المسلم. أمّا الكبر فهو ليس له، ولا ينبغي لمثله لأنّ الكبر صفة من صفات الربوبية، ولا يليق بالعبد الفقير إلى مَولاه. فعن أبي هريرة (رض)، أنّه قال: رسول الله (ص): “قال الله عزّوجلّ: الكبرياء ردائي، والعَظَمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار”.

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد”، ومعنى الفخر الكبر والتعاظم، ومعنى البغي الظلم، والعدوان؛ فالظلم والعدوان نتيجة الغرور والكبر والتعاظم في النفس.
أخي  المسلم أختي المسلمة : اعلموا ان هذا التواضع  له فوائد عظيمة، فمن فوائده محبة الله لذلك المتواضع، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه) [المائدة:54]، قال العلماءُ إن الله لم يمدح الذل إلا في موضعين: ذل المسلم مع إخوانه المؤمنين بأَلَّا يتعالى ولا يتعاظم عليهم، وذل الأولاد مع الأبوين، قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:24]، أي تواضع لهما.

ومن فوائد التواضع أنه رفعةٌ للمؤمن، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “ومن تواضع لله رفعه”، وأن هذا التواضع من أسباب دخول الجنة: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص:83].

أحبتي في الله :

لقد كان  محمد بن عبد الله سيد ولد آدم، وسيد الأولين والآخرين، وأفضل خلق الله على الإطلاق، وأفضل من مشت قدماه على الأرض، كان  التواضع خلقه وصفته في حضره وسفره، و خلقه مع أصحابه ومع أعدائه، والتواضع خلقه مع الأغنياء والفقراء، مع الصغار والكبار ،لقد كان صلى الله عليه وسلم رقيق القلب، رؤوفاً بأمته، حريصاً عليهم، ساعٍ في تأليفهم، فأحبوه المحبة الصادقة فوق محبة المال والأهل والولد؛ يقول له أحد أصحابه: يا رسول الله! إني أحبك، فكلما ذكرتك لم تقر عيني حتى أنظر إليك، ولكنني أفكر بعد موتي وعلو منزلتك ماذا سأفعل؟ فأنزل الله: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69].

والله يقول له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران:159]، والله يذكّره نعمته: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.

لقد كان تواضعه ظاهرا في كل أخلاقه، ركب الحمار وأردف عليه، والعرب في كبرياء نفوسهم لا يرون ذلك لذوي الزعامة والشأن منهم؛ أجاب دعوة الداعي الذي دعاه إلى إهالة سنِخة وخبز من شعير فأجاب، يغشى الأنصار في بيوتهم فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم، صلوات الله وسلامه عليه، توقظه الأَمَة حتى يقضي حاجتها، صلوات الله وسلامه عليه.

 

أحبتي في الله

إن ما يعين المرء على التواضع أمور كثيرة ،  ومنها أن يتذكر الإنسان  نفسَه ومصدر تكوينِه: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) [القيامة:37]، أن  يتذكَّر فقره إلى الله وكمال غنى الله عنه وأنه فقير إلى الله بذاته مهما عظُم ماله وجاهه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، على الإنسان أن يتذكر ضعفه وعجزه والأمراض والأسقام عليه وأنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرَّا ولا يتحقق له نفع .

أخي المسلم: تذكَّرْ عظمة الله وكمال أسماءه وصفاته وكمال علمه واطلاعه عليك وكمال عظمته وكبرياءه فتواضع له فذاك زيادة في مقامك.وتذكَّرْ رحيلك من الدنيا، ومهما طال عمرك فلا بد من مفارقتها، إذاً فلا بد من تواضُعٍ لله، وعملٍ صالح؛ وذكِّر نفسك  أخي في الله بسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق وأفضلهم، لِيَكُنْ نِبراساً لك في حياتك، وهو الذي صاحب  الفقراء والمساكين وتواضع لهم لعل الله أن يزيد ذلك في درجاتك، فكن متواضعاً في أمورك كلها لتكون من المتقين، ولا يستحوذ عليك الشيطان فيصور لك التواضع ذلاً وضعفاً وعجزاً، بل هو عز وكرم وشرف لك إذا قصدت بذلك وجه الله.

أخي الحبيب : تواضَعْ لله، تواضَعْ لذي العزة والجلال، تواضع لله في قلبك، وليعلم الله منك ذلك، وخوفك من الله، وتعظيمك لله: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء:172]. وتواضعك لله يدعوك للالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، وألا تعارض أوامره بهواك ورأيك؛ بل تكون خاضعاً مستجيباً لله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)[الأنفال:20-21].

وتواضَعْ لِنَبِيِّكَ -صلى الله عليه وسلم-، وعظِّمْ سُنَّتَه، وأحييها ، وادع إلى العمل بها، واستدل به في أقواله وأفعاله، ولْيَكُنْ قوله عندك مقدماً على قول أي إنسان كائناً من كان، سنته معظمة عندك، عندما تسمعها تعمل بها وتطبقها وتراها الحق والهدي والرشاد.

أيها المسلم: تواضع للأم الكبيرة، وتواضع للأب الكبير، وأحْسِنْ صحبتهما، واختم حياتهما ببرك وإحسانك، فعسى دعوة صالحة تصعد إلى الله فتسعد بها في دنياك وآخرتك.

وأنت أيها الأب الكريم وأنت أيتها الأم الفاضلة : تواضعوا للأولاد والبنات بالتربية الصالحة، والتوجيه القيم، وليعلموا منكما خلق التواضع ليتخلقوا به في أنفسهم.

وانت أيها العالم الجليل: تواضع لله، وَلْيَكُنْ علمك سبباً لتواضعك، وسبباً للِين جانبك، واحذر أن يكون علمُكَ سبَبَاً لغرورك وتيهك وكبريائك وتعاليك على عباد الله.” فتواضع لعباد الله، وعلِّم جاهلهم، واهْدِ الضالَّ  منهم  وبين لهم الطريق المستقيم دون عجرفة ولا تكبر وتذكر أيها العالم الجليل وأنت أيها الأستاذ المبجل تذكروا أن  محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم كان يستقبل أسئلة الجاهلين فيعلمهم ويرشدهم ويهديهم إلى الخير، ويتواضع لهم، وما كان يقابل سؤالهم بالتكبر عليهم، أو يقول أنت جاهل لا تفهم .

وانظر وا معي الى قصة ذلك الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم  وقال له يا رسول الله! هلكتُ وأهلكت، قال: “ما شأنك؟”، قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فبماذا اجابه الحبيب المصطفى هل قال  له يا عاصِ ويا جاهل ويا مغفل؟   ابدا والله  ، بل قال له : “أعتق رقبة”، قال لا أجد سوى رقبتي هذه. قال: “صم شهرين متتابعين”، قال وهل أوقِعُني فيما وقعت فيه؟ قال: “أطْعِم ستين مسكينا”، قال لا أجد. فأُتِيَ النبي بعرق من تمر فقال: “خذ هذا وتصدَّقْ به”، قال: أعَلَى أفقر مني؟ فوالله ما في المدينة أهل بيت أفقر من أهل بيتي! قال: “خذه وأطعمه أهلك”، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم-.

هكذا كان رسول الله صلى الله عليه ويسلم يعلِّم الجاهل، هكذا كان يرشده،و هكذا كان يبصِّره، يأتيه المسيء في صلاته فيصلي ويسلم عليه فيقول: “ارجع فصَلِّ فإنك لم تصلِّ” ثلاث مرات، ثم يقول: والذي بعثك بالحق نبياً! ما أحسن غير هذا. فعَلَّمَهُ الصلاة كاملة، والطمأنينة فيها، وأرشده إليها. هكذا كان حاله مع الجاهلين يُعَلِّمُ وَيُرْشِدُ وَيُبَصِّرُ. فاين نحن من أخلاق المصطفى؟

أخي  المسلم: إن التواضع خلق المسلمين في أحوالهم كلها، فلنتواضع لله تواضعاً يدعونا إلى الدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر.تواضع للفقير والمسكين، ولا يستخفنك الشيطان فتقول هذا عامل بسيط او هذا فلاح جاهل،  او هذا  مجرد حِرفي، لا يا أخي، كلنا عباد الله، أغنياؤنا وفقراؤنا، رؤساؤنا ومرؤوسونا، كلنا عباد الله سواء،  ويبقى أكرمُنا عند الله أتقانا لله، وأعظمنا أكثرنا تعظيماً لله، فالله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فكم من شخص تستخف به وتنظر إليه بعين الاحتقار وهو أكرم عند الله منك ومن ملايينك! (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ)[الحجرات:11].فلا تتكبر على أحد لأجل مرضه، أو لضعف جاهه، أو ضعف منزلته، اعلم أن الذي أهَّلك قادر على أن يؤهله، فتواضع لله، واحذر أن يسلب الله عنك نعمته لتكبرك وطغيانك وغطرستك، فتواضع لعباد الله، هكذا يكون المسلمون في أعمالهم كلها. وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العظيم الجبار، الواحد القهار، العزيز الغفار، واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.

وبعد، أحبتي في  الله:

اعلموا رحمكم الله أن  الكبر مرض قلبي خطير، يقع فيه كثير من الناس، وحسبك بالكبر قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))؛ رواه مسلم.

والكِبْرُ في القلب ربما لم تظهر للأعيان، فأقل الكبر مستوجب لعذاب الله، لتطهيره من هذا الداء الخبيث، والمرض العضال، الذي يكفي أنه من أسباب الضلال، وهو حاجب عن الحقيقة، مانع للنصيحة، وصاحبه مكروه من الخلق، منقوص من أقرب الناس إليه.

وهنا نتساءل: ما هي الأسباب المساعدة على علاج الكبر والابتعاد عنه؟

فالجواب من وجوه:

الأول: تأمل ما في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من الوعيد الشديد للمتكبرين وبغض الله تعالى لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))؛ رواه مسلم.

الثاني: التذكر دوماً أنه من مساوئ الأخلاق، وأن العبد عار عليه الكبر، فهو صفة الخالق المستغني، وأن المتكبر مكروه من المخلوقين، فالناس لا تحب معاشرة من يستعلي عليهم.

الثالث: لما يتكبَّر الإنسان وبما يتكبر، فليعلم أن كل ما أوتيه من علم أو مال أو عقل أو توفيق أو نجاح أو فلاح إنما هو من الله تعالى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ﴾ [النحل: 53]، وقد حرم غيره منها، فهل مقابلة النعم تكون بالكبر؟

إن الله يبتليك بهذه النعم، وليست دليل محبته سبحانه وتعالى؛ بل ربما قد تكون استدارك وفتنة ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾ [الفجر: 15-17] أي: ليس الأمر كذلك، إنما هو ابتلاء، ومحبة الله تكون للمؤمنين الصابرين عند البلاء، الشاكرين عند النعماء، المتواضعين.

فهذه النعم تستوجب مزيد شكر للخالق، وذلة له، ورحمة بالمخلوقين لا كبراً ولا إعراضاً.

الرابع: فلينظر المتكبر المختال في أصله ومآله، وفي ضعفه وموته، ﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾ [عبس: 18-23].

أيها المغترُّ بأصله، إنك من تراب، ومن نطفة قذرة ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12 – 13]، ومردُّكَ إلى الموت والتراب: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ﴾ [عبس: 21 – 22].

يا من يتكبَّر بماله لست أكثر مالاً من قارون، وتأمَّل ما قال: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ [القصص: 78] قالها مختالاً، لم يرد الفضل إلى الله، قال سبحانه: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص: 81] فالجزاء من جنس العمل.

وهذا أبو لهب وكان رفيع النسب، عظيم المال ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴾ وإن كنت تتكبَّر بعلمك وعقلك وفكرك، فقد فعلها اليهود، فلم يعلموا بعلمهم، وتكبروا عن قبول الحق، فكان كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5].

يا من يتكبَّر بجماله وحليته، وطول إزاره، تفكر ما في جوفك، لو تفكر الناس ما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب، يا ابن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب.

قال الأحنف: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين، كيف يتكبَّر.

وقال مُطرِّف بن عبدالله لأحد المستكبرين وقد جاء يختال: ألم تعرفني؟ قال: بلى؛ أولك نطفة قذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العَذِرَة.

وقال بعض السلف: ما دخل الكبر على قلب امرئ إلا نقص من عقله مقدار ذلك.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].

أقول ما تسمعون وأُصلِّي وأُسلِّمُ على سيد المتواضعين، خاتم المرسلين، فقد أمركم ربكم بأمرٍ بدأَ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكة قدسه، وثلَّث بالمؤمنين من جنه وإنسه، فقال عز من قائل عليماً: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك، من بلغ الرسالة، ونصح الأمة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، فصلوا وسلِّموا عليه.

اللهم صَلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمة المهديين، أهل الإيمان والتواضع لله: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانك، يا أرحمَ الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتنا ووُلاةَ أمرِنا؛ اللهم وفِّقْهُم لما فيه صلاح الإسلامِ والمُسلمين.

اللهم وفق ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له معينا ونصيرا وأعنه وانصره على أعدائه وأعداء المغرب واعده الينا سالما غانما   .

اللهم امدده  من عندك بالصحة و العزم و القوة و الشجاعة والحكمة و القدرة و التوفيق لما فيه مصلحة العباد و البلاد و الأمة الإسلامية قاطبة ، و اجعله لدينك و لأمتك ناصراً ، و لشريعتك محكماً .اللهم  خذ بيده، و احرسه بعينيك الّتي لا تنام، واحفظه بعزّك الّذي لا يضام. واحفظه اللهم في ولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بأخيـــــــه المولى رشيد وسائر الأسرة العلوية  المجيدة وأيِّده بالحق وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]، (ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرِينَ) [الأعراف:23] (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].

فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكرْكم، واشكروه على عُموم نعمه يزدْكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *