خطبة القناعة 2

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فيا عباد الله،
يقول الله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا)،وروى الحاكم والبيهقي عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس”.
وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ- أَيْ جَعَلَهُ قَانِعًا بِالْكَفَافِ وَالْكِفَايَةِ كَيْ لَا يَتْعَبَ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ-وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ  يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ، وحذر صلى الله عليه وسلم من الإلحاح في المسألة؛ فقال في المتفق عليه وفيما جاء عن أبي سعيد الخدري:”من يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر”.
أيها الإخوة الكرام، في إحدى الخطب الماضية تطرقنا لما يتعلق بمفهوم القناعة ومعناها، وتحدثنا عن واقع الحال لدى الناس في علاقتهم بهذه الخصلة، وتكلمنا عن فوائدها وصححنا بعض الأخطاء المتصلة بها، خاصة فيما يتعلق بهدي الإسلام في تملك المال.
وفي خطبة هذا اليوم سنتابع ما تبقى في هذا الموضوع، وسنقف بشكل خاص عند بعض صور قناعة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، وسبل وصول العبد المؤمن إلى التخلق بهذه الخصلة النبيلة.
لـقـد كـان رســول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً ويقيناً، وأقواهم ثقة بالله تعالى وأصلحهم قلباً، وأكثرهم قناعة ورضيً بالقليل، وأنداهم يداً وأسخاهم نفساً، وكان يقدم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل إنه كان يترك الدنيا لأهل الدنيا حتى كان عليه الـصـلاة والـسـلام  يفرِّق المال العظيم- الوادي والواديين- من الإبل والغنم ثم يبيت طاوياً، وكان الرجل يُـسْـلــم من أجل عطائه صلى الله عليه وسلم ثم يحسن إسلامه، قال أنس رضي الله عنه:كان الـرجــل ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، وشواهد هذا من سيرته كثيرة جدا.
أما قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله، فيكفي أن أذكر لكم ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت تخاطب عروة بن الزبير رضي الله عنهما ابْنَ أُخْتِي : إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْن وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ “، فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ  قَالَتْ: ” الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ”.، والمراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين، وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث، ووقع في رواية سعيد عن أبي هريرة عند ابن سعد: كان يمر برسول الله صلى الله عليه وسلم هلال ثم هلال ثم هلال لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ، وعـنـهــا أيضا قالت: “لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين”.
أما قناعته صلى الله عليه وسلم في أمور فراشه فيكفي أن تطلعوا على ما روته أمنا عائشة رضي الله عنها  قالت: “كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف”، والأدم هو الجلد المدبوغ والليف المقصود به ليف النخل، وفي ذلك دلالة على خشونة فراشه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّـر فـي جـنـبـه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً؛ فقال: ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطينا من حاله صورا للعبد المؤمن القانع، وإنما كان يربي أهله على القناعة، وهكذا فبعد أن اخــتـــار أزواجه البقاء معه والصبر على القلة والزهد في الدنيا حينما خيرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى:” يا أيها النبي قل لأزواجك إن كـنـتـن تـردن الحـيـاة الـدنـيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا وإن كـنـتـن تردن الله ورســوله والـدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما”، فاخترن رضي الله عنه الآخرة، وصبرن على لأواء الدنـيــا ، وضعف الحال، وقلة المال طمعاً في الأجر الجزيل من الله تعالى.
ولم يـقـتـصــر صـلى الله عليه وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على الـقـنـاعـة فقد أتاه سـبي مرة، فشكت إليه فاطمة الزهراء رضي الله عنها ما تلقى من خدمة الــبـيـت، وطـلـبـت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال:”لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع”.
ولم يكن هذا المـسـلـك مــن القـناعة إلا اختيارا منه صلى الله عليه وسلم وزهداً في الدنيا، وإيثاراً للآخرة.
نعم إنه رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه، وأباها بعد أن منحها، وما أعطاه الله من المال سلطه على هلكته في الحق، وعصب على بطنه الحجارة من الجوع صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام : عــرض عـلـي ربـي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت:لا يا رب؛ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تــضـرعــت إلـيــك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك”.
أيها الإخوة الكرام،إن العز كل العز في القناعة، والذل كل الذل في الطمع، ذلكم أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزاً بينهم، والـطـمــاع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا كان محمد بن واسع رحمه الله تعالى يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد، وقال الحسن رحمه الله تعالى لا تزال كريماً على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك.
فليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين خير أسوة في الاقتداء بهم ومتابعتهم، حيث لم يقضوا أوقاتهم في طلب الدنيا والجري وراءها بل كانوا أول القانعين منها الزاهدين فيها، فليقنع كل واحد بما قسمه الله له  وليعلم أن الدنيا أقبلت أو أدبرت فإنها فانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله،
يقول تعالى:” فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ”وروى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لن تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل”، وقال عليه السلام:” ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”.
نعم أيها الإخوة الكرام، علينا أن نقْنع بما قسمَ الله لنا من نعمة جسمٍ ومالٍ وولدٍ وسكنٍ وموهبةٍ، فكل من ينشد السعادةُ فعليه أن يرضى بصورتِه التي ركبَّه اللهُ فيها، و بوضعه الأسري، ومستوى فهمِه ودخلِه، والمتأمل في حال سلفِنا الصالح وأكثر أهل الجيلِ الأولِ  يجدهم كانوا فقراء لم يكنْ لديهم أُعطياتٌ ولا مساكنُ بهيةٌ، ولا مراكبُ، ولا خدم ولا حشمٌ، ومع ذلك قنعوا بما آتاهم الله وأثْروُا الحياة وأسعدوا أنفسهم والإنسانية، لأنهم وجّهوا ما آتاهمُ اللهُ من خيرٍ -رغم قلته- في سبيلِهِ الصحيحِ، فَبُورِكَ لهم في أعمارِهم وأوقاتِهم ومواهبهم، ويقابلُ هذا الصنفُ المباركُ، مَلأٌ من أهل عصرنا أُعطوا من الأموالِ والأولادِ والنعمِ الشيء الكثير الوفير، وبدل أن تكون لهم سببا في القرب والوصال مع الله كانتْ سببَ شقائِهم وتعاستِهم، والسبب في ذلك  بكل بساطة أنهم لم يعرفوا كيف يمزجوا بين الدين والدنيا دون تغليب أحدها على الآخر، وظلوا طول أوقاتهم يلهثون وراء الدنيا طمعا في جمعها والاستزادة منها.  
نعم أيها الإخوة والأخوات، تجد الكثير منا يلهث وراء المال ليكنزه، لا لينفقه، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو لورثته الذين سيتنعمون به، وسيحاسب هو عليه، كيف جمعه، وفيمَ أنفقه؟.
وأختم بهذه العبارات التي فيها عبرة لكل معتبر حتى لا نغتر بالدنيا ونقنع منها باليسير، ذكر الإمام القرطبي في التذكرة، وفيما جاء عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من بيت إلا وملَك الموت يقف فيه كل يوم خمس مرات، فإذا وجد أن العبد قد انقطع رزقه وانقضى أجله ألقى عليه غمّ الموت فغشيته سكراته، فمن أهل البيت الناشرة شعرها، والضاربة وجهها والصارخة بويلها، فيقول: فيمَ الجزع ومم الفزع؟ ما أذهبت لواحد منكم رزقاً ولا قربت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودة حتى لا أبقي منكم أحداً، وهنا يقول عليه السلام: فو الذي نفس محمد بيده لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم، فإذا حُمل الميت على النعش، رفرفت روحه فوقه قائلة: يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم فأنفقته في حلِّه وفي غير حلِّه فالهناء لكم والتبعة علي”.
وهكذا فبالتعرف على حقيقة الدنيا وبالإكثار من الدعاء والالتجاء إلى الله أن يرزقنا القناعة والرضى والكفاف، وبالتحقق التام والاعتقاد الجازم أنّ الله قد قدر أرزاق العباد فما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن ننظر دائما وأبدا إلى من هو أسفل منّا كما أرشد رسولنا قال:” انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ؛فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ”، بهذه الأمور نتحقق ونتخلق بهذا الخلق النبيل خلق القناعة، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *