بعض تجليات الكذب في الحياة اليومية وطريق معالجته
بعض تجليات الكذب في الحياة اليومية وطريق معالجته
فضيلة الدكنور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لاأحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب”.
عباد الله، إنه ليس هناك من إشكال أن يعتني الإنسان المسلم بهندامه كثيرا، أو أن يكون هندامه أقل من غيره، هذه كلها طباع عادية يمكن أن يطبع عليها المسلم، لكن أن يطبع على الخيانة والكذب، فهذا أمر مستقبح يغضب الله عز وجل، وقد يقع المسلم في عدة معاص لضعف في نفسه أو غلبة شهوته، لكن الكذب ليس شهوة، بل هو خبث.
عباد الله، هناك أمور تكثر في مجالسنا ونحن نجالس الأهل والأقربين والأصدقاء، وتجر الإنسان جرا إلى الكذب، فمن ذلك التساهل في بعضالأمور وتهوينها واعتبارها عادية، ولكنها في شرع الله كذب، روى الإمام الطبراني عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت:” كنت صاحبة عائشة التي هيأتها فأدخلتها على النبي ﷺ في نسوة، فما وجدنا عنده قرى إلا قدحا من لبن، فتناوله فشرب منه، ثم ناوله عائشة فاستحيت منه، فقلت: لا تردي يد رسول الله ﷺ، فأخذته فشربته، ثم قال: ناولي صواحبك، فقلن لا نشتهيه، فقال: لا تجمعن كذبا وجوعا. فقُلن: إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهي؛ أيعدُّ ذلك كذبًا؟ فقال: إن الكذب يُكتب كذبًا، حتى الكُذَيبة تُكتب كذيبة”.
ومن ذلك أن يختلق أحدنا رؤى مناميةيقصها وكأنها وقعت له لإيهام السامع أنه صاحب فضل ومقام ودرجة عند الله تعالى، أو للاحتيال عليه أو التلبيس عليه فيما يريده، كما هوحال الدجالين، روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺقال:” من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة”، والآنك هو الرصاص المذاب. ومما يوقع في الكذب التحدث عن بعض الأحداث بأنانية وكأنك المرجع فيها، وأنه لولاك ما كان ليحصل الذي حصل، فالمريض بالأنانية غالبا لا يسلم من الكذب.
ومن ذلك ما دأب عليه بعض الناس وهم يريدون أن يضحكوا الناس ويمازحوهم فيكذبون من أجل ذلك، روى الإمام الترمذي وغيره عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له”.
ومن تجليات ذلك أيضا أن يتحدث أحدنا حديثا باطلا، وهو إنما يريد إغاظة السامع وإلحاق الأذى به، روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت يا رسول الله إن لي زوجا ولي ضرة، وإني أتشبع من زوجي أقول: أعطاني كذا وكساني كذا وهو كذب، فقال رسول الله ﷺ:” المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور”.
عباد الله، بقي أن أشير إلى مايجوز من الكذب، فالكذب وإن كان محرما فيجوز في بعض الأحوال بشروط بينها العلماء، ومختصر ذلك أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، فإن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا كان الكذب واجبا، وذلكم كإخفاء مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله، وكذا لو كان لديه أمانة ويريد ظالم أخذها، والأحوط في هذا كله أن يوري، ومعنى التورية أن يقصد بعباراته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ، روى الإمام مسلم عن أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول:” ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا…ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث:الإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها”، أسأل الله عز وجل أن يلزمنا الصدق في الأقوال والأفعال، أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله، قد يسأل سائل بعد هذا كله، كيف عالج الإسلام هذه الظاهرة السلبية؟، أقول في الجواب: أولا، بالتوبة الصادقة من الكذب، وفي هذا المقام جدير بنا أن نعرف عقوبة الله تعالى للكذابين، روى الإمام البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه في حديث طويل يقص فيه النبي ﷺ رؤيا منامية له، قال: “فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح الأول كما كان، ثم يعود فيفعل كما كان فعل به في المرة الأولى، قال:…فأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق”.
ثانيا، باختيار محيط صالح صادق، يقول تعالى: “يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”، لابد من البحث عن الصادقين والصالحين لنكون معهم وفي رحابهم وفي صحبتهم ومرافقتهم لنأخذ من خصالهم وتوجيهاتهم، فالطبع للطبع يسرق كما يقال.
وثالثا،وأخيرا بمجاهدة اللسان ألا يقول إلا الصدق، ولا يتحرى إلا الصدق، وملازمة الصمت إلا إذا كان ولابد الكلام، روى الإمام المنذري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:” لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه”.
فالصدق الصدق عباد الله، فلا ينفع إلا الصدق، فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم، والحمد لله رب العالمين.