حب الأوطان من الإيمان -3-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، نحمده حمد الشاكرين الذاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه: “وهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب”، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله جبل على حب بلاده ووطنه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به. أما بعد فيا أيها المؤمنون، ما أجمل أن يحس الإنسان بأن له وطنا يعيش فيه، ويأمن في ربوعه على نفسه وماله ودينه وولده، وتميل فطرته السليمة إلى رعايته والمحافظة عليه، والدفاع عنه، ويدفعه هذا الحب لوطنه لأن يسهر على حمايته، والذود عنه، ليصونه من حسد الحاسدين وتدبير الماكرين، أيها الإخوة المؤمنون، قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال: “يمشي أحدنا ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيئه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى”، انظروا إلى هذا الإرتباط الوثيق وهذه الوشائج التي عبر بها هذا الأعرابي عن حبه لبلده في أصعب الأحوال يلاقي ما يلاقي من حرارة وقسوة للعيش ثم يقول أنا في وطني بهذه الحالة ملك مثل كسرى في إيوانه ويكفي لجَرح مشاعر إنسانٍ أن تشير بأنه لا وطنَ له، أيها المؤمنون، إن المواطنة الحقة قيم ومبادئ وإحساس ونصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعزة و موالاة وتضحية وإيثار والتزام أخلاقي للفرد والأمة، ومن مظاهر هذه الوطنية الدفاع عن الوطن إذا هوجم أو بغي على حريته وأمنه، بالقوة، والكلمة، والتحام الصفوف، والإلتفاف حول من ولاه الله أمر البلاد، وتاريخنا والحمد لله حافل بهذا النوع من الوطنية الصادقة التي تربى عليها المغاربة وربوا عليها الأجيال السابقة، نتذكرها ونذكر بها كلما حلت بربوعنا ذكراها، ومن مظاهر الوطنية الصادقة أيضا محاربة مظاهر الانحلال الديني والخلقي، وذلك بمحاربة الجريمة بجميع أنواعها كالرشوة والسرقة واللواط والزنا وقتل النفس بغير حق والربا والأفكار المضادة للشرع القويم، ومن مظاهر الوطنية الصادقة أيضا أحترام القوانين والأنظمة التي وضعتها الدولة لتنظيم حياة الناس وحفظ حقوقهم، فالمجتمع لا يسوده الأمن والإخاء إلا باحترام دستور الدولة ونظامها، ومن مظاهر الوطنية الصادقة أيضا الوقوف أمام الشائعات المغرضة، والتصدي لها لأنها تهدم كيان الأمة، وتضرب تاريخها واقتصادها، فالمواطن الحق ينبغي عليه أن يكون على يقظة، لايسمح بأن تلمز بلده بأشياء مزيفة وبإشاعات مغرضة يروج لها أعداء وحدتنا وحسادنا في أمن ورخاء بلادنا، فيجب علينا أن نكون أكثر وعيا لأننا مستهدفون من قبل أناس سخروا أنفسهم لنشر الضغينة والحقد والفساد في الأرض، ومن مظاهر الوطنية الصادقة الحرص على وحدة الصف واتحاد الكلمة، وبصفة مجملة فإن المواطن الحق هو الذي يحقق معاني الإسلام قولا وعملا ليجمع الناس إلى تحقيق معنى العبودية ووحدة الصف لضمان خيري الدنيا والآخرة، ويجعل نصب عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار”، ويمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم”، كل هذه القيم ينبغي أن نلقنها فعليا لأبنائنا وللأجيال التي ستحمل المشعل بعدنا، تنخول الفرص بين الفينة والأخرى لنقص عليهم من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة والتابعين بعده، ومن سيرة أبطال الوطنية في مملكتنا المغربية ما يجعلهم يتشبثون بالهوية الوطنية ويحسون بالإنتماء الكلي قولا وفعلا بمغربنا، فلله ذر الشاعر شوقي حينما قال: وطني لو شغلت بالخلد عنه ** نازعتني إليه بالخلد نفسي، وقول القائل: بلادي وإن جارت علي عزيزة ** وأهلي وإن ظنوا علي كرام، فلا شيء يضاهي شعور الإنسان بوطنيته، وانتمائه لبلده، والحمد لله إخوتي المؤمنون، لقد عبر الشعب المغربي يوم الأحد الماضي عن وطنيته الصادقة حينما لبى النداء للتنديد بمؤامرات خصوم وحدتنا الترابية، وبمناورات هيئة الأمم المتحدة ممثلة في شخص أمينها العام حينما وصف الجزء الصحراوي من مملكتنا المغربية بالجزء المحتل، ضاربا عرض الحائط التاريخ العريق لمملكتنا والإرتباط الوثيق لشعبنا المغربي شمالا وجنوبا شرقا وغربا والتفافنا حول ثوابثنا التي لا نرضى أن تمس أو تهان، فقد لقنتم للعالم درسا بمسيرة الوحدة التي لم يشهد العالم مثيلا لها، وقلتم للعالم بأن المغاربة جنود مجندون لحماية الوطن، وأنهم لا يساومون على وحدتهم الترابية وهذه نعمة من نعم الله علينا، فاللهم اجعلنا لنعمك من الشاكرين، ولوطننا وأهلنا حامين، ولعروة بيعتنا لأمير المؤمنين حافظين، وعلى صراطك المستقيم سائرين، غير مبدلين ولا مغيرين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، من مثبتات الوطنية الصادقة، والشعور الجماعي بالإنتماء للوطن، أن نشيع خلق العفو والصفح بيننا، فمجتمعنا الإسلامي لا يقوم على المحاسبة والانتصار للذات وإنما يقوم على المسامحة والصفح، قال تعالى: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”، ولا يمكن لمجتمع أن ينمو إلا عندما تتصافح الأيدي وتتصافى القلوب من الحقد والغل، قال تعالى: “واصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل”، وهذا الخلق لا نكتسبه إلا بمجالسة الأخيار، لأن لها آثارا حميدة، بفضلها تتحسن الأخلاق، وتصحح المفاهيم، وبفضلها تتقوى الرابطة الوطنية، وينمو الحس الجماعي والشعور بالهوية المغربية الإسلامية، وتدفعنا للإلتزام بالمنهج الذي خططه قائدنا وأميرنا جلالة الملك محمد السادس للعمل على رفاه وازدهار أمتنا بإخلاصنا في وظائفنا وفي مسؤلياتنا المنوطة بنا، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”. الدعاء