الحقوق المشتركة بين المسلمين (7): تشميث العاطس

الحمد لله، الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، نحمده تعالى ونشكره ونستغفره، ونستعين به ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،

من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلاهادي له،
ونشهد لاإله إلا الله، وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه المبين: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله، جمع الله به الكلمة ووحد به الأمة، أرسى دعائم أخوة المسلمين ببيان الحقوق المشتركة، في قوله صلى الله عليه وسلم: “حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتّبِعه”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به،
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
كنا قبل شهر رمضان قد خصصنا سلسلة من الخطب المتعلقة ببيان الحقوق المشتركة بين المسلمين، التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على إشاعة التخلق بها بين المسلمين توطيدا لرابطة الأخوة الإنسانية التي تجمع بين الناس أجمعين، وسببا لدوام الأخوة والوحدة بين المسلمين، واليوم إن شاء الله تعالى نواصل الحديث عن هذه الحقوق ببيان الحق الرابع المتعلق بتشميث العاطس فنقول وبالله التوفيق،
أيها الإخوة المؤمنون، أول ما يشرع للعاطس أن يحمد الله تعالى  فيقول بعد عطاسه: “الحمد لله “، ومن آدابه أيضا أن يخفض بالعطس صوته، لئلا يزعج أعضاءه، ولا يزعج جلساءه، وأن يرفعه بالحمد، ليسمع من حوله، وأن يغطي وجهه، لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه، عن أبي هريرة(ض) قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته) ثم يجب على من سمعه يحمد الله تعالى أن يشمته، أي يدعو له بقوله: يرحمك الله. كما في حديث عائشة (ض): (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله، وليقل من عنده: يرحمك الله، والظاهر أنه فرض عين، كما أكدت ذلك عدة أحاديث، بعضها جاءت بلفظ الوجوب: “خمس تجب للمسلم” وبعضها بلفظ الحق الدال عليه: كلفظ حديث الباب “حق المسلم على المسلم ست”، وذهب جماعة إلى أن التشميت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه بعض أئمتنا المالكية، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة، وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية،
أيها الإخوة المؤمنون، إذا كان تشميث العاطس من الحقوق المشتركة بين المسلمين فإن هذه القاعدة يستثنى من عموم الأمر بها عدة أصناف مثل من لم يحمد الله بعد عطاسه، فشرط التشميت الحمد، وقد روى البخاري عن أنس(ض) قال: “عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر. فقيل له: فقال: “هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله” وكذلك يستثنى من القاعدة المزكوم  إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث، حيث يشق على جليسه أن يشمته في كل مرة، ويشرع له في هذه الحالة أن يدعو له بدعاء يلائمه، مثل الدعاء بالعافية والشفاء وما هو من هذا القبيل، ويستثنى أيضا من التشميث الكافر، عن أبي موسى الأشعري قال: (كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول: يرحمكم الله . فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم”) وهذا يعني أن لهم تشميتًا مخصوصًا، وليسوا مستثنين من مطلق التشميت، كما جاء عن ابن حجر، ويستثنى من التشميث أيضا من عطس والإمام يخطب يوم الجمعة، لما ورد من منع الكلام والإمام يخطب، وإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب،
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إذا كان تشميث العاطس حقا للعاطس على من جالسه، فإن ديننا الإسلامي رغب في أن يرد العاطس على من شمته بدعاء آخر يتضمن معاني المودة والأخوة التي لا تتحقق إلا بأن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه، إذ أوجب الشرع على العاطس أن يرد على من شمته فدعاله بالرحمة، أن يدعوا له بالهداية وصلاح البال كما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه “يرحمك الله” فإذا قال له يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو يدعوا له ولنفسه بالمغفرة كما في حديث ابن مسعود (ض): “يغفر الله لنا ولكم”، وروي عن ابن عمر (ض) أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، قال: (يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم).
جعلني الله وإياكم من الذين يرعون حقوق أخوة الإسلام، ويؤدون واجباتهم، ويمتثلون أمر ربهم  ونبيهم، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه أمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، إذا عرفنا أدب العطاس وأحكامه ، فقد آن لنا أن نستجلي وجه الحكمة والمصلحة في ذلك، وهي في الواقع تتجلى في ثلاث أمور،
أولا: ربط المسلم بالله في كل أحيانه، وعلى كافة أحواله، وينتهز لذلك الفرص الطبيعية والمناسبات العادية التي من شأنها أن تحدث وتتكرر كل يوم مرة أو مرات، ليذكر المسلم بربه، ويصله بحبله، فيذكره تعالى مسبحًا، أو مهللا، أو مكبرًا، أو حامدًا، أو داعيا، وهذا سر الأذكار والأدعية المأثورة الواردة عند ابتداء الأكل والشرب، وعند الفراغ منها، وعند النوم واليقظة، وعند الدخول والخروج، وعند ركوب الدابة ولبس الثوب، وعند السفر، والعودة منه …
وهكذا، فلا غرابة أن يعلم المسلم إذا عطس أن يحمد الله ، وأن يقول سامعه: يرحمك الله ، وأن يرد عليه: يهديكم الله ، وبهذا تشيع المعاني الربانية في جو المجتمع المسلم، شيوعها في حياة الفرد المسلم. أما تخصيص العاطس بالحمد، فالحكمة فيه أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ، الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تقابل بالحمد لله ، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع،
وأما قول السامع يرحمك الله ، فقد أكد القاضي ابن العربي في ذلك: “أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: يرحمك الله ، كان معناه: أعطاك الله رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس ، ويقيم على حاله من غير تغيير”، وقال ابن أبي جمرة في شرح العطاس : وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس .
ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير ، وشرع هذه النعم المتواليات، في زمن يسير فضلا منه وإحسانًا”؛
ثانيا: تشميث العاطس فيه إقرار للون من ألوان “المجاملة” الاجتماعية الطيبة، التي تنافي الجفوة والتقاطع والهجران، وتثبت معاني التواصل والمودة والرحمة، قال ابن دقيق العيد: “ومن فوائد التشميت تحصيل المودة، والتآلف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عند الكبر، والحمل على التواضع”، وكلها معان إنسانية جميلة؛
ثالثاً: إن الإسلام قد جاء في هذا الأدب بما أبطل اعتقادات الجاهلية التي لم تقم على أساس من عقل أو نقل، وما نشأ عن هذه الاعتقادات من عادات مستقبحة في الفطرة، ضارة بالحياة، فقد ذكر العلامة ابن القيم أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون بالعطاس ويتشاءمون منه، فكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمرًا وشبابًا، وإذا عطس من يبغضونه قالوا له: وريًا وقحابًا (الوري كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب كالسعال وزنًا ومعنى)، فكان الرجل إذا سمع عطاسًا يتشاءم به، يقول: بك لا بي. أي أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي.
وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد، فلما جاء الله سبحانه بالإسلام، وأبطل رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أهل الجاهلية من الضلالة، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة، وكما كان الدعاء على العاطس نوعًا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ(الرحمة) المنافي للظلم، وأمر العاطس أن يدعو لمشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم.
فاتقوا الله عباد الله، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *