فضل العشر من ذي الحجة وعبر عيد الأضحى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده … وبعد:
فمن فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح،
ويتنافسون فيها فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً. ومن هذه المواسم الفاضلة عشر ذي الحجة، وهي أيام شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها؛ بل إن لله تعالى أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرفاً وفضلاً، إذ العظيم لا يقتسم إلا بعظيم،وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها. وفي هذه الرسالة بيان لفضل عشر ذي الحجة وفضل العمل فيها، والأعمال المستحبة فيها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الاستفادة من هذه الأيام، وأن يعيننا على اغتنامها على الوجه الذي يرضيه.
عباد الله فبأي شيء نستقبل عشر ذي الحجة؟
حري بالمسلم أن يستقبل مواسم الطاعات عامة، ومنها عشر ذي الحجة بأمور جليلة ومن بينها :
1- التوبة الصادقة :فعلى المسلم أن يستقبل مواسم الطاعات عامة بالتوبة الصادقة والعزم الأكيد على الرجوع إلى الله، ففي التوبة فلاح للعبد في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون( [النور:31].
2- العزم الجاد على اغتنام هذه الأيام :فينبغي على المسلم أن يحرص حرصاً شديداً على عمارة هذه الأيام بالأعمال والأقوال الصالحة، ومن عزم على شيء أعانه الله وهيأ له الأسباب التي تعينه على إكمال العمل، ومن صدق الله صدقه الله، قال تعالى:( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت
3- البعد عن المعاصي:فكما أن الطاعات أسباب للقرب من الله تعالى، فالمعاصي أسباب للبعد عن الله والطرد من رحمته، وقد يحرم الإنسان رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه÷ فإن كنت تطمع في مغفرة الذنوب والعتق من النار فأحذر الوقوع في المعاصي في هذه الأيام وفي غيرها؟ ومن عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل.
فاحرص أخي المسلم على اغتنام هذه الأيام، وأحسن استقبالها قبل أن تفوتك فتندم، واعلم أخي العزيز أن لهذه الأيام أفضالا كثيرة ومنها :
1- أن الله تعالى أقسم بها:وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم، قال تعالى ( وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) . والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: وهو الصحيح.
2- أنها الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره:قال تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) [الحج:28] وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس.
3- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا:فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(فضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب( [ رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني]
4- أن فيها يوم عرفة :ويوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً، وقد تكلمنا عن فضل يوم عرفة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه في رسالة (الحج عرفة(0
5- أن فيها يوم النحر :وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال صلى الله عليه وسلم (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)[رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني].
6- اجتماع أمهات العبادة فيها :قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) [رواه البخاري].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكرت له الأعمال فقال: ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشرـ قالوا: يا رسول الله، الجهاد في سبيل الله؟ فأكبره. فقال: ولا الجهاد إلا أن يخرج رجل بنفسه وماله في سبيل الله، ثم تكون مهجة نفسه فيه) [رواه أحمد وحسن إسناده الألباني].
فدل هذان الحديثان وغيرهما على أن كل عمل صالح يقع في أيام عشر ذي الحجة أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وإذا كان العمل فيهن أحب إلى الله فهو أفضل عنده. ودل الحديثان أيضاً على أن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد في سبيل الله الذي رجع بنفسه وماله، وأن الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة تضاعف من غير استثناء شيء منها.
عباد الله
إذا تبين لكم فضل العمل في عشر ذي الحجة على غيره من الأيام، وأن هذه المواسم نعمة وفضل من الله على عباده، وفرصة عظيمة يجب اغتنامها، فحري بكم أن تخصوا هذه العشر بمزيد عناية واهتمام، وأن تحرصوا على مجاهدة انفسكم بالطاعة فيها، وأن تكثروا من أوجه الخير وأنواع الطاعات، فقد كان هذا هو حال السلف الصالح في مثل هذه المواسم، يقول أبو ثمان النهدي: كانوا ـ أي السلف ـ يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من محرم.
ومن الأعمال التي يستحب للمسلم أن يحرص عليها ويكثر منها في هذه الأيام ما يلي:
1- أداء مناسك الحج والعمرة.وهما أفضل ما يعمل في عشر ذي الحجة، ومن يسر الله له حج بيته أو أداء العمرة على الوجه المطلوب فجزاؤه الجنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [متفق عليه].
والحج المبرور هو الحج الموافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يخالطه إثم من رياء أو سمعة أو رفث أو فسوق، المحفوف بالصالحات والخيرات.
2- الصيام :وهو يدخل في جنس الأعمال الصالحة، بل هو من أفضلها، وقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) [متفق عليه].
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبين فضل صيامه فقال: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده) [رواه مسلم].
وعليه فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح فيها. وقد ذهب إلى استحباب صيام العشر الإمام النووي وقال: صيامها مستحب استحباباً شديداً.
3- الصلاة:وهي من أجل الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، ولهذا يجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليه أن يكثر من النوافل في هذه الأيام، فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) رواه البخاري.
4- التكبير والتحميد والتهليل والذكر:فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) [رواه أحمد]. وقال البخاري ك كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرها. وقال: وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً.
ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به، وعليه أن يحذر من التكبير الجماعي حيث لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف، والسنة أن يكبر كل واحد بمفرده.
5- الصدقة وهي من جملة الأعمال الصالحة التي يستحب للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام، وقد حث الله عليها فقال: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254]، وقال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) [رواه مسلم].
وهناك أعمال أخرى يستحب الإكثار منها في هذه الأيام بالإضافة إلى ما ذكر، نذكر منها على وجه التذكيرلا الحصر ما يلي:
قراءة القرآن وتعلمه ـ والاستغفار ـ وبر الوالدين ـ وصلة الأرحام والأقارب ـ وإفشاء السلام وإطعام الطعام ـ والإصلاح بين الناس ـ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وحفظ اللسان والفرج ـ والإحسان إلى الجيران ـ وإكرام الضيف ـ والإنفاق في سبيل الله ـ وإماطة الأذى عن الطريق ـ والنفقة على الزوجة والعيال ـ وكفالة الأيتام ـ وزيارة المرضى ـ وعدم إيذاء المسلمين وغيرها من الأعمال الصالحة الجليلة التي ما فتئ الدين الحنيف يوصينا بها.
فاللهم اجعلنا من أهل الخير والعمل الصالح، واغفر لنا ولوالدينا وإخواننا في الإيمان، يا رحيم يا رحمن، يا كريم يا منان، والحمد لله ذي الفضل والإحسان. اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبةالثانية
الحمد لله رب العالمين، الذي دعانا في غير ما آيةٍ من كتابه، إلى التفكّر والاعتبار، وإلى التذكّر والاستذكار، كلُّ ذلك ليتجدّد لنا الإيمان وتقوى فينا الهمّةُ والعزيمةُ للثّبات على العبادة والدّوام على الطّاعة.
عبادَ الله! بعد أيام معدودات سيحل يومُ العاشر من ذي الحجّة، خاتمة العشر المباركة، وهو يوم الأضحى، ويوم النّحر، ويومُ الحجّ الأكبر، فيه تكونُ معظمُ أعمالِ الحج، يطوف الحجيج بالبيت، ويسعون بين الصّفا والمروة، وينحرُون هداياهم، ويحلقون رؤوسهم أو يقصّرون.
وفي هذا اليوم العظيم يذبح سائر المسلمين في بلدانهم، يذبحون أضاحيهم ويقدّمون قرابينهم طاعةً لربّهم وطلبًا للقُربى لديهِ.
عباد الله،
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾.وعيد الاضحى ايها الاخوة المومنون يومٌ مَلِيءٌ بالعِبَرِ وذِكْرَيات الحوادث العظيمة الخالِدةِ بخُلُودِ القرآن ودينِ النّبيِّ عليه الصّلاة والسّلام، فلا ينبغي أن يَمُرَّ علينا هذا اليومُ والأيّامُ التّي تليهِ -وهي أيّامُ عيدٍ-، لا ينبغي أن تمُرَّ دونَ أن نقفَ وقفاتٍ للتّذكُّرِ والاِعتبار.
ونَقِفُ اليومَ عندَ حَدَثٍ عظيمٍ نَسْتَجْلِي العِبْرَةَ منهُ: إنَّهُ قِصَّةُ الذَّبيح إسماعيل (عليه الصّلاة والسَّلام).
قال تعالى يَذْكُرُ الخَليلَ إبراهيمَ (عليه السّلام): ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾[الصافات: 100-113].
قال تعالى عن دعوةٍ دَعَا بها إبراهيم الخليل، استجابَ اللهُ له فيها: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾، هو بِكْرُهُ وأَكْبَرُ ولدهِ: إسماعيل، ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾، أي: «كبر وترعرع وصار يذهبُ مع أبيهِ ويمشي معهُ»، وقد كان إبراهيم -حين ترك ولدَه إسماعيل وأُمه هاجر بوادي مكَّةَ – كان يذهب في كلل وقت يتفقد ولده وأُمَّ وَلده، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، ورؤيا الأنبياء وحي، ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، «أي: امْضِ لما أمرك اللهُ من ذَبْحِي، أي: سأصبر وأَحتسب ذلكَ عندَ الله عزّ وجلّ، وصدقَ إسماعيلُ (صلوات الله وسلامُه عليه) فيما وَعَدَ، ولهذا قالَ اللهُ تعالى عنهُ: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾[مريم: 54]»، وَعَدَ إسماعيلُ من نفسه الصَّبْرَ على الذَّبْح ، فوفَّى وصَدَقَ.
قالَ: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، هذا: «كَلام مَنْ أُوتِيَ الحِلْمَ والصَّبْرَ والاِمتثالَ لأمرِ اللهِ، والرِّضَا بما أَمَرَ اللهُ».
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾، «أي: اسْتَسْلَمَا وانقادَا، إبراهيمُ امْتَثَلَ أمرَ اللهِ، وإسماعيلُ طاعةَ اللهِ وأبيهِ»، «اسْتَسْلَما لأَمْرِ الله عزّ وجلّ، فأَطَاعَا ورَضِيَا»، ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾، أي: «أكَبَّهُ على وجهِهِ»، ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، «أي: هكذا نصرِفُ عمّن أطاعنا المَكَارِهَ والشّدائدَ، ونجعلُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ فَرَجًا ومَخْرَجًا، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾[الطلاق: 2-3]».
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، فمَنْ أَحْسَنَ في طاعةِ اللهِ تعالى، فإنّه يَجْزِيهِ، ويُخلِّصُهُ في الشَّدائدِ ويُنجّيهِ في المضائِق، في الدّنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾، أي: «الاِختبار الواضح الجليّ، حيثُ أُمِرَ بذَبْحِ ولده، فسارعَ إلى ذلكَ مُستسلِمًا لأمرِ اللهِ، مُنقادًا لطاعتِهِ، ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾[النجم: 37]». قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
عبادَ الله!… تَذَكَّرُوا وأنتم تذبحون الضّحايا والقرابين في منازلكم، ويذبحُ الحُجَّاج الهدايا والقرابين بمكَّةَ، تَذَكَّرُوا ما كان مِنْ قصّة أبيكم إبراهيمَ مع ولدهِ إسماعيل.
تَذَكَّرُوا ما كان عليهِ إمامُ الحُنَفَاء وولدهُ إسماعيل مِنْ بَذْلِ مُهَجِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ للهِ، وما كانا عليهِ من الحِلْم وقُوَّةِ الصَّبر.
تَذَكَّرُوا كيفَ سَلَّمَ الذّبيحُ نفسَهُ للهِ تعالى، وبذَلهاَ طاعةً للهِ.
تَذَكَّرُوا كيفَ امتُحِنَ وابتُلِيَ الخليلُ في بِكْرِهِ وأحبِّ ولدهِ الّذي انتظرهُ طويلاً، فجازَ الامتِحانَ وأثبتَ صدقَهُ بِإِطاعتِهِ لربِّهِ.
تَذَكَّرُوا كيفَ شَكرَ اللهُ تعالى لإبراهيمَ اسْتِسْلاَمَهُ لأمرِهِ وبَذْلَ ولدِهِ لهُ، فكانَ ثوابُ الله أن نجَّى إسماعيلَ من الذّبح وجعلَ بَدَلَهُ ذِبْحًا عظيمًا، قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾، أَيْ واللهِ! ذِبْحٌ عظيمٌ، ومِن عظمتِهِ، أن جعلَهُ اللهُ قُربةً وسُنَّةً ماضيَةً إلى يومِ القيامة، يُضحِّي المسلمون في كلّ عامٍ ويتقرَّبونَ إلى الله تعالى بضحاياهم إعلانًا منهم بأنَّهم على عهدِ اللهِ ماضونَ وأنَّهم عن طاعتِه سبحانهُ لا يتخلَّفُونَ، فهم مُداوِمُونَ على الطَّاعةِ، يبذلُونَ أنفسهم وأموالهم للهِ.
عبادَ الله!… هذا ثوابُ اللهِ بإنْجاءِ إسماعيلَ من الذَّبح، قد زادَ عليهِ، أبقى اللهُ لإبراهيمَ إسماعيل وزادهُ عليهِ إسحاق، قال تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾. هذه عبادَ الله! بركاتُ الطَّاعة تتوالى وتَتَزَايَدُ على مَن أطاعَ الله، فربُّكُم -جلّ وعلا- وَاسِعُ العطاء، عَظِيمُ المَنّ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: 7].
واعلموا -عبادَ الله!- أنّ طاعةَ الله تَسْتَدْعِي المثوبةَ والرِّضوان وازديادَ الرِّزق. كانَ بعضُ السَّلف (رحمهم الله) يقولُ:«اتَّخِذْ طَاعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تِجَارَةً تَأْتِكَ اْلأَرْبَاحُ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ».
فأَطِيعُوا اللهَ -عبادَ الله!- واعبدُوهُ واشْكُرُوا لهُ لعلّكم تُفلحون، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾[الحج: 77-78].
واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاة والسلام على نبيِّهِ الكريم فقال *إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّـونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا َسْلِيمًا*
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْـدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَــةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا، اللهـم وفق وانصر أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس لما تحـــــب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى وارزقه البطانة الصالحة ،اللهم انصر من نصره واخذل من خذله واحفظه في ولي عهــده الأمير مولاي الحسن وأنبته نباتا حسنا وشد أزره بأخيه المولى الرشيد وباقي الأسرة العلوية الشريفة
.اللهمَّ أنت الحليم فلا تعجل، وأنت الجواد فلا تبخل، وأنت العزيز فلا تذل،وأنت المنيع فلا تُرام، وأنت المجير فلا تُضام ، وأنت على كل شيء قدير.اللهمَّ لا تحرمنا سعة رحمتك، و سبوغ نعمتك، وشمول عافيتك، وجزيل عطائك، ولا تمنع عنا مواهبك لسوء ما عندنا، ولا تُجازنا بقبيح عملنا، ولا تصرف وجهك الكريم عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.اللهمَّ لا تحرمنا ونحن ندعوك… ولا تخيبنا ونحن نرجوك.اللهمَّ اغفر لنا ما قدمنا و ما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا ارحم الراحمين
اللهم انا نسألك بمحمد الحمد , لبيك غاية القصد،لبيك سبيل الرشد .
اللهم اجعلنا في هذه العشر من ذي الحجة وفي كل يوم مثلها من سائر الأيام ممن حقق آياتك بإتقان،وارزقنا الفوز بفضلك، ودار الإقامة في ظلك، واسلكنا الخط المستقيم وأبعدنا من نار الجحيم واعد علينا من بركات هذه الأيام المباركة بأتم النعم وأغزرها وأزكى الحكم وأزهرها اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وثبتنا على معرفتك وأحسن اجتماعنا بأهل الإحسان وألحقنا بإخواننا الذين سبقونا بالإيمان يا رحيم يا رحمان .
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.