الإنفاق في سبيل الله

الحمد لله العلي الأعلى، خلق فسوى، وقدر فهدى، وشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم دنيا وأخرى، ودعاهم إلى الترابط فيما بينهم حتى يتحقق نفعهم،

وتجتمع كلمتهم على العروة الوثقى، نحمده تعالى ونشكره على نعمة الإسلام الفضلى،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله عادل ورب كريم لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيرا ونذيرا للمؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات،
إن أيام الخير والطاعة والبر والإحسان لا تمضي ولا تنقضي، فإذا كان الفراغ من أداء الفرائض يحقق في لنفوس معاني السمو ومعاني الخير والبر والطاعة، فإن شريعة الإسلام تحرص على أن يكون المؤمن دائم الصلة بالله، عن طريق ما يربي عليه سلوكه، ويقوم به خلقه، وبما يسهم به من أبواب الخير التي تعود على إخوانه في المجتمع بالمنافع العامة، والصلاة الاجتماعية الكريمة التي تضمن سعادتهم، وتحقق الحب والصفاء بينهم.
إن الإنسان العاقل في هذه الحياة الدنيا مكلف برسالة عظمى، يجب أن يبلغها، وعلى عاتقه أمانة لا بد أن يؤديها، وبقدر تبليغه لرسالته في مجتمعه، وبقدر ما يكون نفعه، يكرمه الإسلام، ويرفع من  قدره، لأن المفروض في الإنسان أن يكون نافعا لنفسه ولغيره من الناس، ومن يقدم الخير للناس ويسعى في مصالحهم، ويبذل جهده لسعادتهم يحبه الناس جميعا، ويحترمونه، ويرفعونه فوق رؤوسهم، وفي ذلك ضمان اجتماعي للأمة كلها، واستقرار نفسي لأفرادها، وعامل أساسي لانتشار المحبة فيها، لأن الإحسان يملك الإنسان، وقد قال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ** فلطالما استعبد الإنسان إحسان.

وعندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعقد مقارنة بين الناس ليبين أفضلهم وأكرمهم منزلة، لم تكن هذه الأفضلية والخيرية في نظره بكثرة مال الإنسان ولا بجاهه وقوته وسلطانه، ولا باجتهاده في عبادته وشدة بأسه، وإنما بقدر ما يعود على المجتمع والناس من نفعه، فقال  صلى الله عليه وسلم: “خير الناس أنفعهم للناس”.
أيها الإخوة المؤمنون، إن النفع الذي تحدث عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث له مظاهر متنوعة، وصور كثيرة واضحة، منها التكافل الاجتماعي الذي جعله الإسلام ضرورة من ضروريات الحياة، وقرنه المولى عز وجل بالإيمان في كثير من آي القرآن، ومظهرا من مظاهر شكر الله ذي الجلال والإكرام، وعلامة على صدق الإنسان، قال الله تعالى في هذا الشأن: “آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير”، ولهذا نجد الإسلام قد أعطى للتكافل الاجتماعي من الأهمية والأسبقية ما لا يستطيع أن يحققه اليوم إنسان لأخيه الإنسان، إذ ألزم الإسلام  المجتمع الإنساني بوصف عام برعاية الفقراء والأرامل والأيتام والمرضى والمعوزين وذوي الحاجات والأسقام منذ ظهوره بين الأنام.
وحرص كل الحرص على جعل المسلمين أينما كانوا أمة واحدة يتكافل أفرادها فيما بينهم، ويتعاطفون مع من والاهم وسالمهم، القوي منهم يسند بقوته الضعيف، والغني يواسي بما أفاء الله عليه به حاجة الفقراء والمحتاجين، والصحيح يؤازر السقيم، لأن الجميع خلق الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفراد المجتمع سواء في ضروريات الحياة، وهم شركاء في ثلاث: في الماء والكلإ والنار، مثلهم في ذلك كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري (ض) قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل” قال الله تعالى: “الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
وقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى”.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، لقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في الجود والإنفاق في سبيل الله، ومن ذلك ما رواه البخاري عن سيدنا أنس بن مالك (ض) قال: كان أبوطلحة أكثر أنصاري المدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس(ض): فلما نزلت “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون” قال أبوطلحة يا رسول الله، إن الله يقول: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون”، اللهم إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ –وهي كلمة تقال عند المدح والرضا- وذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين . فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.  
فما أحوجنا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات اليوم أكثر من أي وقت مضى، خاصة ونحن حديثوا عهد بشهر كريم، صمنا أيامه وقمنا لياليه، وبذلنا من العمل الصالح ما نرجوا ثوابه يوم لقاء الله، ومنا من يستعد لقضاء العطلة الصيفية في المتنزهات والمنتجعات، في حين أن من إخواننا من لا يجد ما ينفق، أو ما يشتري به الأدوية في المستشفيات، ومن يهدد بإفراغه وأسرته من المأوى الذي يسكنه مع أسرته لقلة ذات يده ولعجزه عن أداء واجب الكراء المترتب عليه، فعلينا أن ننظر إلى هؤلاء، ونسعى إلى بذل المعروف لهم، وإدخال السرور عليهم فإن هذا العمل يجد مكانه في قرآننا الكريم، وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وطبقه سلفنا الصالح، ودأب عليه المغاربة منذ القديم، فلنتشبه بهذا الرعيل الصالح من الصحابة، وقد قال الشاعر:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالكرام رباح

الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *