مداخلة الدكتور مولاي هشام الإدريسي، أستاذ العلوم السياسية بالرباط

السيد مولاي إسماعيل بصير شيخ وخادم الطريقة البصيرية،

السادة أعضاء اللجنة التنظيمية لهذا الملتقى العلمي والديني،

أيها الحضور الكريم، حقوق الإنسان في الكون والمنهج الصوفي

موضوع حقوق الإنسان يعتبر اليوم موضوعا دوليا وعالميا إلى درجة أنه أصبح دينا جديدا، الكل اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان.
ولكن لابد لنا من تأصيل هذا الموضوع تأصيلا دينيا، نظرا لأهميته في حياة الإنسانية، وإذا رجعنا إلى أهم النظريات والمرجعيات الكبرى التي تتناول موضوع حقوق الإنسان نجدها تنحصر في مرجعيتين اثنتين هما:
•    المرجعية الغربية
•    المرجعية الإسلامية
المرجعية الغربية: هي مرجعية وضعية قانونية وعقلانية، أي أنها تؤمن بالقاعدة القانونية الملزمة، وهو الإلزام الذي يقوم على وجود جزاء يطبق على كل من يخالف مضمون القاعدة القانونية.
كما أنها مرجعية عقلانية، أي تنطلق من وضع الحقوق والحريات والتشريع لها من العقل، فكل ما يقبله العقل من حقوق وحريات يجوز التشريع فيها وجعلها حقوقا للإنسانية.
فمبدأ العقل هو المعيار الذي تستند إليه هذه المرجعية الغربية للتشريع في مجال حقوق الإنسان، وإذا كان معيار العقل معيارا مقبولا، وله حجته في التفكير والتدبر وهو أيضا ما قام عليه الإيمان في الإسلام، حيث جعل من العقل أساس الإيمان الحقيقي القائم، والتدبر والتفكير في الله، إلا أن العقل كسند في المرجعية الغربية يبقى سندا ناقصا وقاصرا على إدراك كنه الأشياء، لأنه يستند على التفكير والتدبر وعلى معيار المنطق، فالمنطق هو التأطير العقلاني والروحي للعقل، وبدون منطق يخرج العقل عن صوابه ويصبح شاردا وضالا، ذلك الشرود الذي يؤدي بالعقل إلى الضلال.
والإسلام لم يأمرنا بالإيمان بدون استعمال العقل، ولكن ذلك العقل المضبوط والمتناغم مع المنطق أي منطق الأشياء والوجود، وفي القران ما يدلنا على ذلك، ما جاء في سورة الأنعام الآية 76-77: “وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.   
فسيدنا إبراهيم أراد أن يتيقن من وجود الله، فبحث بالعقل في الملكوت ولكنه كلما وجد شيئا قال مرتكزا على العقل: هذا ربي، لكنه باستعمال المنطق يستخلص أن هذا الإله يأفل أي يغيب، وهو كإنسان يريد ربا لا يأفل ولا يغيب، ربا يكون موجودا متواجدا وحاضرا معه في كل وقت وحين، وهذا المنطق هو الذي لايسري على هذه الكواكب التي رآها، وبالتالي بحكم المنطق لا يمكن أن تكون له ربا وإلاها.
هذا المنطق أيضا هو الذي عاد إليه واستند إليه الفلاسفة الذين بحثوا في أصول مرجعيات حقوق الإنسان، فخلصوا إلى أن الطبيعة أو حالة الطبيعة يجب أن تكون هي منطق التفكير العقلي والمنطقي للتشريع في حقوق الإنسان، فتكلموا عن مايسمى بالحقوق الطبيعية أي الحقوق الأصلية التي خلقها الله في الإنسان، واعتبروها أساسية لكرامته وإنسانيته، وبها نظم الله العلاقات الاجتماعية والإنسانية وغيرها، كالحق في الحياة، والحق في المساواة والحرية.
فإذا كان الفلاسفة الغربيين الأوائل قد ربطوا التفكير في حقوق الإنسان بحالة الطبيعة أو الحقوق الطبيعية الأساسية، إلا أنهم بعدما سيطرت عليهم صور الدنيا المادية والمبنية على المصلحة الدنيوية زاغو عن الأصل وانحرفوا انحرافا شاذا عن منطق الطبيعة ومنطق الوجود الإنساني، فتشوه الأصل بأسباب مادية ضالة فبدؤوا يشرعون في حقوق وحريات ضالة ومنحرفة عن الطبيعة الإنسانية الأصلية الفطرية التي خلقها الله عليها، وهكذا نجد اليوم من يبشر بحقوق وحريات ما أنزل الله بها من سلطان ولا أساس لها في الطبيعة الإنسانية ولا حتى في الطبيعة الحيوانية، وسبب هذا كله عندهم هو سيطرة النزعة المادية عبر فكرهم وحياتهم وعملهم بسبب زيغهم عن الدين و تعاليمه.
لكن الله سبحانه وتعالى الخالق البارئ المصور، الذي صور الإنسان في أحسن صورة ما شاء ركبه، لذلك فالوجود الإنساني في صورته التي صوره الله عليها يمثل أغلى حق من الحقوق، وهو الكرامة المعبر عنها في قوله تعالى: “ولقد كرمنا بني ادم”، وتجدر الإشارة إلى أن حالة الطبيعة التي استند إليها الغربيون الأوائل للتشريع والتفكير في حقوق الإنسان، هي حالة الفطرة الإنسانية التي خلقها الله في الإنسان، فطرة أصلية طبيعية من رجع إليها وتشبت بها لن يزيغ أبدا عن غاية الله في الخلق، وهذه الغاية هي التي تعمل الصوفية على تحقيقها والحفاظ عليها وتربية الإنسان على منهجها .
فالصوفية كمنهج تربوي تبقي سلوك الإنسان السلوك القويم الصحيح الرباني في علاقته بالله وعلاقته بالغير، وهي العلاقة التي تجعل الإنسان الفاهم لسلوكها ومنهجها إنسانا محترما لحقوق الغير ومراعيا لها.
ففي الإسلام نجد نظاما أوسع للحقوق والحريات لا يمكن أن نجدها إلا في الإسلام كدين رباني، وهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله لعباده لتنظيم عيشهم ويعم السلام والأمن بينهم .
فحقوق الفقير واليتيم والطفل ورعاية الشيخ والمسن والمرأة، والأسير هي حقوق كرسها الإسلام وزكاها، واعتبرها حقوقا مقدسة مرتبطة بقيمة ودرجة الإيمان لدى كل مسلم ومؤمن، غير أننا تخلينا عن أصل الدين، ولم نفهم فلسفته، وهي الفلسفة القائمة على رعاية الحقوق والحريات رعاية شمولية بمنهج رباني و صوفي تربوي تجعل كل ناهج لسلوكها مثالا أعلى للإنسان الرباني الصوفي وليس الإنسان الدنيوي المادي، وبهذه الرؤية الفلسفية ستكون حقوق الإنسان في المنهج الصوفي حقوقا عالمية تنير عالمنا فتعمه بالسلام و العيش الكريم، والسلام

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *