مداخلة الأستاذ وليد المغربي، من فلسطين
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
الإخوة الحضور.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
انه لشرف كبير لي أن أقف اليوم بين أيديكم ملبيا دعوة مولاي إسماعيل شيخ الزاوية البصيرية وذلك تخليدا للذكرى الرابعة والأربعين لانتفاضة المجاهد سيدي محمد بصير ضد الاستعمار الاسباني، واني أقف بين أيدكم حاملا جزيل الشكر والامتنان للقائمين على هذا الجمع المبارك وفي هذا المكان الذي أصبح منارا للعلم والتعليم ومحجا لأهل الله.
لكم جزيل الشكر ولهذا البلد الجميل ولملكه الشريف وللشعب المغربي الكريم حما الله المغرب من كيد الكائدين وجعله درة في تاج الإسلام والمسلمين.
يا مغرب الأحرار دمت منعما يرعاك رب العرش في السموات
فيك الإله أعطى خير امة ما تعجز الأقلام عد صفات.
ولي الشرف أن أتحدث اليوم بين أيديكم حيث سأتناول في مداخلتي
الطرق الصوفية بالمشرق العربي واتصالها الروحي بالمملكة المغربية.
وبالحديث عن التصوف والصوفية أبدأ بتعريف ابن خلدون في مقدمته حيث يقول:
” هذا علم من العلوم الشرعية، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريق الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الحياة وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، ولما فشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على الله باسم الصوفية”.
بعد عهد الصحابة، والتابعين، دخل في دين الإسلام أمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ فقام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يجيده أكثر من غيره، فنشأ- بعد تدوين النحو في الصدر الأول- علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض “الميراث” وغيرها، وبعد هذه الفترة أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئا فشيئا، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هم من ناحيتهم أيضا على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم، من باب سد النقص، واستكمال حاجات الدين في جميع نواحي النشاط.
ويختلف الدارسون في نشأة التصوف في حين يجمع الكثيرون أن التصوف قد مر بمراحل كثيرة حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، وأن البذرة الأولى له كانت ترجع إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما كان يخص كل من الصحابة بورد يتفق مع درجته وأحواله.
أما سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقد أخذ من النبي الذكر بالنفي والإثبات وهو “لا إله إلا الله”، وأما سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أخذ عنه الذكر بالاسم المفرد (الله)، ثم أخذ عنهما التابعون هذه الأذكار وسميت الطريقتين: بالبكرية والعلوية.
إذن يمكننا القول أن التصوف جزء أساسي من التراث الإسلامي، حيث تبوأ مكانا هاما في الفكر العربي الإسلامي، والاهتمام بالتصوف قديم، تناوله المؤرخون والعلماء العرب والمسلمون كالطوسي، والقشيري وغيرهم، كما ألف فيه الفلاسفة كابن سينا والغزالي وابن خلدون.
ومهما اختلف الكثيرون حول نشأته وبدايته وماهيته، إلا أن التصوف سلوك وتعبد وزهد في الدنيا وإقبال على العبادات واجتناب المنهيات ومجاهدة للنفس وكثرة ذكر لله، وأن أول صوفي هو نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بحد ذاته أول من دخل الخلوة في غار حراء وأن التصوف يستمد أصوله وفروعه من تعاليم الدين الإسلامي المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية.
ولم يقتصر التصوف في الإسلام على البلدان العربية فحسب، بل انتشر كذلك في جل المراكز الأساسية لهذا العالم، والتي كانت وما تزال ناشطة في هذا المجال.
فعن التصوف في جزيرة العرب وفي السعودية على وجه الخصوص، كان إقليما الحجاز وتهامة في شبه الجزيرة العربية في عهد الدولة العثمانية ساحة للتصوف، فبحكم مكانتهما الدينية بوجود الحرم المكي والحرم النبوي في الحجاز، فقد تنوعت الطرق الصوفية فيهما؛ فقد كانت هناك طرق السنوسية، والطريقة الادريسية، والختمية، والكيلانية، والأحمدية، والرفاعية، والبكداشية، والنقشبندية، وفي الوقت الحالي يوجد التصوف في الاحساء شرق السعودية وفي الحجاز غرب السعودية.
وفي الكويت توجد الطريقة الرفاعية، وهي الطريقة التي أدخلت الصوفية إليها حسب بعض المصادر، ويرى بعضهم أن الطرق الصوفية في الكويت سورية المنبع، لها أتباع في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت ووزارة الأوقاف.
وفي البحرين ينتسب صوفية البحرين إلى عدة طرق منها النقشبندية والقادرية، ولا تعاني الصوفية في البحرين من مضايقات من قبل الدولة بسبب هامش الحرية الكبير الذي تعيشه الطوائف في البحرين.
وفي مصر اشتهرت عدة طرق صوفية كانت في معظمها وافدة وليست من تأسيس المصريين، كانت تمثل مع بداية ثورة 23 يوليو 1952م نحو 3 ملايين منتسب ينتظمون في ستين طريقة.
ومصر تعتبر إحدى كبريات الحواضر الصوفية في المشرق العربي الإسلامي، وقد انتشرت بها العديد من الطرق الصوفية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.
الطريقة القادرية: وأصبحت هذه الطريقة أصل الكثير من الطرق الصوفية بمصر والمغرب.
الطريقة الرفاعية: أسست بالعراق، ثم انتقلت هذه الطريقة إلى مصر عبر أبي الفتح الواسطي أواخر القرن 6 هـ/12م، وأنشأ رباطا له ولمريديه بالإسكندرية عرف برباط الواسطي.
الطريقة الأحمدية: أسسها أحمد البدوي، الذي ارتحل من المغرب إلى مكة ومنها إلى مصر. لما توفي خلفه في رئاسة الطريقة تلميذه عبد العال الأنصاري.
غير أن أشهر طريقة عمت مصر ومنها انتقلت إلى المغرب الأوسط وإن كان أصل مؤسسها مغربي هي:
الطريقة الشاذلية: وهي منسوبة لمؤسسها الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وهو صوفي بارز الاتجاه، وأصله المغرب، ووفد إلى مصر مع جملة من تلاميذه، واستوطنوا مدينة الإسكندرية حوالي سنة 642هـ/ 1243م وكونوا بها مدرسة صوفية، وكان من أشهر تلامذة أبي الحسن الشاذلي الشيخ أحمد أبي العباس المرسي الذي خلفه وتولى قيادة الطريقة الشاذلية حتى وفاته بالإسكندرية سنة 686هـ/1284م، ثم خلفه تاج الدين بن عطاء الله السكندري المصري الذي ألف في مناقب شيوخه كتاب لطائف المنن.
وفي الأردن يعتبر التصوف نمط حياة قديم ومتجذر لدى أغلب طوائف وطبقات المجتمع الأردني، وفيه العديد من الزوايا الصوفية وحلقات العلم والذكر، أما الطرق الصوفية في الأردن؛ فهنالك الشاذلية، وتنتشر في كافة أنحاء المملكة والطريقة القادرية والرفاعية والنقشبندية والخلوتية الرحمانية، وممتدة في فلسطين والأردن، كما توجد عدة مزارات وقبور لأعلام التصوف.
وفي فلسطين يكتسب مسار التصوف فيها كسائر أنحاء العالم الإسلامي بأطواره وتحولاته العميقة، خصوصية نابعة من اعتبارات دينية تاريخية جغرافية متداخلة، بحكم انضواء فلسطين، بداية، في إطار الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم خضوعها للاستعمار البريطاني، فالاحتلال الصهيوني، مما كان له كبير الأثر في ظهور الوعي السياسي الفلسطيني والتيقظ السابق على بروز الحركة الصهيونية في طورها التنظيمي، وفي تأثر الكينونة الوطنية بتيارات واتجاهات كانت سائدة آنذاك في المنطقة، ثم ما لبث أن وجدت فعليا داخل ساحتها، إلى جانب أخرى تأسست على أرضها، وتتصل تلك أيضا بطبيعة الاحتلال نفسه بوصفه احتلالا استعماريا استيطانيا، محتلا يهدف إلى إنشاء كيان ” قومي لليهود في فلسطين”، وبماهية المتغيرات الإقليمية والدولية التي انعكست تأثيراتها الجلية على مسار القضية الفلسطينية، وما تزال كذلك.
وقد تداخل البعد الديني في رؤية المتصوفة لفلسطين، بما تحمله من مكانة رفيعة في الإسلام وعند المسلمين، فطغت مفاهيم “أرض الرباط” و” الوقف الإسلامي” منطلقا صوفيا لمقاربة ” الجهاد الميداني” سبيلا “لرد العدوانية وإزالة الاحتلال”، واعتقادا يقينيا”بالنصر المحتم”، منذ التصدي للحملات الصليبية بمشاركة شخصيات إسلامية “صوفية” بارزة، مثل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وعبد الله البوينيني والشيخ عبد القادر الجيلاني.
هذه بلاد الشام، وهذه سوريا العرب والمسلمين، التي أضحت جرحا نازفا، ومن لا يعرف سوريا ودورها الريادي والقيادي على الصعيد الصوفي وغيره، لا يعرف شيئا.
وليس من السهل الحديث عن الصوفية في سوريا بمنأى عن دورها في صياغة التاريخ العربي والإسلامي لما لها من مكانة في نفوس المسلمين، وسوريا هي الشام هي الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا، قبل أن يعمد الاستعمار لتقطيع الوطن الواحد.
وأقول هنا: الاستعمار وهو نفسه الذي بذر بذور الفرقة في الوطن العربي والإسلامي، ونفس الفتنة التي يطمح البعض في تذكيتها ليحاولوا اقتطاع الصحراء عن الوطن الأم المغرب خابوا وخابت مساعيهم.
ونعود لسوريا وللشام وخير ما قيل فيها ما قاله المصطفى عليه الصلاة و السلام عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا طوبى للشام يا طوبى للشام، قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال “تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام”، وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام”.
ولست في مقام تعديد الطرق الصوفية في سوريا ومثلها العراق واليمن، بل لن استطيع إيفاء هذا البلد أو ذاك حقه، ولست مفاضلا بين بلد أو آخر فهي بلاد عربية إسلامية، وإن فرقتنا النوازل فما تفرقت قلوبنا، وإن فرقنا الاستعمار ما تفرقت عقيدتنا والحديث يطول.
ومن كل ما سلف نلاحظ أن الحركات الصوفية في الإسلام متشابهة ومتشابكة وقد أثرت كل منهما في الأخرى سواء في المشرق أم بالمغرب ورغم كون التصوف والطرق الصوفية في المشرق تسبق مثيلاتها في المغرب في الظهور، إلا أن الصوفية في المغرب قد غرست جذورها وانتشرت وأصبحت احد أهم الروافد للطرق الصوفية في المشرق.
والتصوف في بلاد المغرب مرحلتين: الأولى مرحلة التبعية، حيث تم إدخال التصوف ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي من قبل حجاج الأماكن المقدسة، ومن الصعب الحديث في هذه الفترة عن تصوف ” مغربي”، لكون أهم رجال الصوفية المغاربة- أمثال أبي يعزى يلنور، وابن عربي، وعلي بن حرزهم- كانوا مشرقيي المشرب، والثانية مرحلة “مغربة” التصوف وكانت بدايتها على سيدي عبد السلام بن مشيش، الذي رغم أنه درس على يد أئمة الصوفية التابعين- كأبي مدين الغوث وعلي بن حرزهم- فانه لم يسلك مسلكهم؛ بل سعى إلى التميز عنهم، وقد أكمل تلميذه أبو الحسن الشاذلي مرحلة “مغربة” التصوف لتصل ذروتها مع محمد بن سليمان الجزولي.
ويعزى انتشار التصوف في المغرب في البداية، لكونه يهدف أساسا إلى نشر الإسلام فيما وراء الحواضر، حيث بدأ منذ القرن الثالث عشر الميلادي يتوغل في الأرياف.
وما ينطبق على التصوف في المغرب يكاد يشابه ما هو موجود في ليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا.
فماذا يميز المغرب عن المشرق؟؟؟ لا يختلف اثنان على أن التصوف عنصر أصيل في الشخصية المغربية، طبعها على مر التاريخ ولا زال حتى الآن عدد من العادات والممارسات الاجتماعية المغربية تجد لها جذورا صوفية بحتة، بحكم أن الذوق المغربي العام ميال نحو الروحانية في ممارسته الدينية، والاعتماد الراسخ لكثير من المغاربة في المظاهر الغيبية المرتبطة بالتصوف (الكرامة- البركة)، مما أهل بلاد المغرب الأقصى لأن تصير أرض الأولياء والشرفاء خصوصا وأن آل البيت (الأدارسة والعلويين)وجدوا فيه مستقرهم ومقامهم الآمن بعد الاضطهاد الذي لاقوه بالمشرق من طرف الأمويين والعباسيين.
وبالتالي لم يكن مستغربا انتشار التصوف والطرقية في المغرب، خاصة إذا علمنا بأن كبار الصوفية كانوا ينتمون إلى آل البيت، كالقطب مولاي عبد السلام بن مشيش، الذي تعتبر الطريقة التي أسسها تلميذه أبو الحسن الشاذلي الطريقة الأم لأغلب الطرق والزوايا المنتشرة اليوم بالعالم الإسلامي.
فإذا كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية، ولا شك أن المتصوفة المغاربة المدفونين في المشرق، والذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية حتى وقتنا هذا، وأذكر منهم محي الدين محمد بن عربي، وأحمد البدوي، وسيدي أبي الحسن الشاذلي، وسيدي أبي العباس المرسي الاسكندري.
وفي وقتنا الحاضر يتضح جليا الدور الكبير الذي تقوم به الطرق الصوفية من رعاية ونشر التصوف في شتى بقاع الأرض دون أن يقتصر تأثيرها على المشرق فحسب، بل أصبحت الزوايا تنتشر في بلاد غير إسلامية، كل هذا إضافة إلى الدور الذي تلعبه الطرق الصوفية في الدعوة إلى المؤتمرات والندوات والمواسم التي تعنى بالتصوف.