مداخلة الشيخ عادل الحرازي، أستاذ جامعي من اليمن
بسم الله الرحمن الرحيم
شائعة لا يؤيدها التاريخ والعلم:
إن هناك شائعات تلقاها الناس بالقبول، وتناقلتها الألسن والأقلام، من غير مناقشة علمية، وتحليل ودراسة كافية.
ومن هذه المفروضات أو الإشاعات التي لا أساس لها من الصحة، أن التصوف عبارة عن البطالة والكسل والجمود، والفرار عن معترك الحياة، ولكننا ننفي هذه الأوهام حين نجد أمامنا حلقة متصلة من الحقائق تقضي على هذا الزعم الباطل، سواءا من ناحية التاريخ والواقع، أو من ناحية النفسية والعقل والبرهان.
صلة التزكية الروحية بالبطولة والكفاح:
لقد سبق لي أن قلت في كتاب سيرة السيد أحمد الشهيد ( ) ما يليق نقله هنا: «ومما يجدر بالذكر ويسترعي الانتباه، أن تلك القوة المعنوية والروحية، والشخصية القوية الفذة، والإخلاص والربانية، والحنان والعاطفة، والإقدام والشهامة، التي نحتاج إليها للتضحية والفداء، وبذل المهج والأرواح والجهاد والكفاح، والتجديد والإصلاح، والفتح والتسخير، لا تنشأ ولا تظهر – في أكثر الأحيان- إلا بعد صفاء الروح، وتهذيب النفس، والرياضة والعبادة، ولذلك نرى أن أكثر من قاموا بدور التجديد والجهاد في تاريخ الإسلام كانوا يتمتعون بمكانة روحية سامية».
سرح طرفك في هذه القرون الأخيرة، تجد فيها أمثال الأمير عبد القادر الجزائري، والشيخ أحمد السوداني، وسيدي أحمد الشريف السنوسي، والسيد الإمام أحمد الشهيد، الذي كان شيخ طريقة وزعيما روحيا في جانب، ومجاهدا وقائدا ومناضلا في جانب آخر.
الحقيقة أن هذه المجاهدات والرياضات، وتزكية النفس، والصلة بالله تنشئ في الإنسان حالة عجيبة من الشوق والوجد والحب والحنان، تتغلغل في أحشائه، وتستقر في أعماقه، حتى تراه ينشد بلسان حاله ويقول:
« إني أملك شيئا أفديك به، إلا هذه الحياة التي أعرتني إياها، فهي منك ولك، ومن فيضك وفضلك».( )، فنهاية المطاف في هذه الرحلة الروحية والسلوك الطويل، هي حب الشهادة، والغاية الأخيرة من هذه المجاهدة والرياضة، هي الجهاد.( )
إن اليقين والحب هما جناحان لصقر الجهاد والاجتهاد، يحلق بهما في السماء، إنه لا يستطيع أحد أن يترفع عن أهواء نفسه وعاداته ومألوفاته ومصالحه ومنافعه، وأغراضه وشهواته، ولا يمكن لأحد أن يترفع عن المستوى السافل الذي أشار الله إليه بقوله: )ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه(، إلا إذا تجلى فيه اليقين والحب، فأصبح كالبرق الخاطف في الليل البهيم، أو كالشعلة المتأججة التي لا تخمد نارها، ولا يهدأ أوارها.
لا بد من صلة عميقة، ولذة روحية، في الجهاد والكفاح:
إن تجارب الحياة الطويلة تدلنا على أن المعلومات والدراسات، أو القوانين والأشكال الفارغة، لا تستطيع أن تثير في الإنسان أدنى رغبة في الإيثار والتضحية، فضلا عن الفداء بمهجته وروحه، إنه لا بد له من صلة عميقة راسخة، ولذة روحية، والحرص على فائدة مغرية في عينيه الفوائد المادية العاجلة، ولعل الشاعر أنشد في هذه الحال، أو صور هذا الموقف، إذ قال:
« إن قيمة الفداء في بلاد الحب، هي الوصول إلى الحبيب، فيا لها من بشرى جعلت رأسي عبئا ثقيلا على كواهلي وأكتافي» .
على رأس كل حركة جهاد وكفاح، شخصية روحية قوية:
وذلك هو السر في ما نرى من وجود شخصية فذة قوية، على رأس كل حركة للجهاد والكفاح، نفخت في المجاهدين روح الحماسة واليقين، وحملت هذه الشرارة إلى صدور المؤمنين الآخرين، حتى شقت عليهم حياة الهدوء والنعيم والترف، وأصبحوا لا يطيقونها، وهانت عليهم حياة الشهادة والجهاد، والبطولة والتضحية، وعزت عليهم الحياة كما عز على غيرهم الموت، وذلك هو النموذج المفقود، والإمام المنشود المقصود، الذي أشار إليه الشاعر العلامة محمد إقبال، فقال:
«إن الإمام الحق وإمام العصر، هو من يبعث فيك المقت والكراهة للحاضر والموجود، يريك وجه الحبيب في مرآة الموت فينغص عليك الحياة، ويبعث فيك الشعور بالخسارة، فيبعثك بعثا جديدا، ويسن( ) حديدك بالفقر، فتصبح سيفا بتارا لا يبقي ولا يذر» .
لا بد من شخصية عبقرية في أوضاع عادية:
إن من يقود الأمم في الأوضاع العادية، والأيام الهادئة، وينفر الجيوش في ساعات الانتصار ولذة الظفر، يوجد في كل زمن، وذلك لا يحتاج إلى شخصية عبقرية، أو يقين ممتاز، وأما من يقودها في الساعات الدقيقة العصيبة من الاحتضار القومي، والانهيار الروحي والخلقي، التي لا تبعث على الأمل والطموح، فهم أقل قليل، ولا يتجاسر على ذلك إلا من حمل في صدره هذا النوع من اليقين، وهذا اللون من الحب، وذلك على أساس الصلة بالله، والاعتماد على الله، والقوة المعنوية الروحية، وكلما تغلبت على الأمة هذه الأوضاع الفاسدة، ودهمتها الليالي القاتمة، وبدا التغيير محالا، وأسعفها رجل من رجال الحب واليقين، وغير تيار الحياة بعاطفته القوية الغامرة، وإقدامه الطموح البعيد، فكان ما قال الله تعالى: (يخرج الحي من الميت)، و(يحي الأرض بعد موتها).
خضوع التتار الفاتحين للإسلام بفضل أهل القلوب والدعاة إلى الله:
لما هجم التتار على العالم الإسلامي، وداسوه تحت أقدامهم، وتقلص ظل الخلافة العباسية، وقضي على حكومة خوارزم شاه التي كانت الحكومة الإسلامية الوحيدة في ذلك العصر، استولى اليأس القاتل على العالم الإسلامي كله، وعلموا أن الانتصار عليه ضرب من المحال، وترددت هذه العبارة على ألسنة الناس: «إذا قيل لك إن التتار انهزموا فلا تصدق». هنالك برز في الميدان بعض رجال الله وأصحاب القلوب، ولم ييأسوا من هذه الأوضاع، واستمروا في مهمتهم وجهادهم، حتى أسلم بعض ملوك التتار على أيديهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
مأثرة الشيخ أحمد السرهندي، ومحافظته على الإسلام في الهند:
أما في الهند فقد اتجهت حكومة «أكبر» إلى اللادينية والإلحاد اتجاها سافرا، وأراد «أكبر»- وكان من أكبر الملوك الذين عرفتهم الهند وأقواهم- أن يطمس على معالم الإسلام وملامحه الواضحة وميزاته البارزة بجميع ما عنده من وسائل ومواهب وطاقات، وقد اجتمع عنده جمع من الأذكياء وذوي الكفاءات النادرة، يعينونه على هذا الباطل، ولم يكن هناك ضعف، أو هرم في الدولة يشير إلى زوالها، أو يدل على ثورة يتأجج أوارها، وكان العلم والمنطق، والقياس الظاهر، لم يكن يصدق أنه سيقع هناك تغيير سار أو تحول بارز في الحكومة والشعب.
هنالك قيض الله أحد عباده للإصلاح والتجديد، فحمل راية الثورة بمفرده، وبدأ في ثورة داخلية بقوة إيمانه ويقينه، وعزمه وتوكله، وروحانيته وإخلاصه، حتى أصبح كل وارث للحكم المغولي أحسن من سابقه، ثم تربع أخيرا على هذا العرش، السلطان محي الدين «أوزنك زيب عالم كير» الملك الفاضل الصالح المسلم الغيور الذي يندر نظيره في تاريخ الدولة الإسلامية، وكان رائد هذه الثورة المباركة، إمام الطريقة المجددية الشيخ أحمد السرهندي ( )- رحمة الله تعالى-.
سهم الشيوخ والعلماء الربانيين في مقاومة الاحتلال الغربي:
ولما هجم التتار( ) الأوربيون، أو الغزاة الصليبيون على العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، هب لمقاومتهم المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، وكان فيهم عدد كبير من شيوخ الطريقة ورجال التصوف، نشأت فيهم – من أجل ترويض النفس والسلوك على طريق النبوة- حمية الإسلام، ومقت الكفر، والاستهانة بالدنيا، والإكبار للشهادة، والإقبال عليها أكثر من غيرهم.
الأمير عبد القادر الجزائري عالم صوفي، وقائد حربي:
وقد رفع راية الجهاد في الجزائر ضد الفرنسيين، وأطلق الشرارة الأولى فيها الأمير عبد القادر الجزائري، ولم يهدأ له بال من عام 1832م إلى 1837م، حتى أقض مضاجع الفرنسيين، وقد أثنى مؤرخو الغرب على شجاعته وعدله ورفقه وعلمه وفضله، وكان هذا المجاهد شيخ طريقة، وصوفيا، ذوقا وعملا، يتحدث عنه الأمير شكيب أرسلان، فيقول:
“وكان المرحوم الأمير عبد القادر متضلعا من العلم والأدب، سامي الفكر، راسخ القدم في التصوف، لا يكتفي به نظرا حتى يمارسه عملا، ولا يحن إليه شوقا، حتى يعرفه ذوقا، وله في التصوف كتاب، سماه (المواقف)، فهو في هذا المشرب من الأفراد الأفذاذ، ربما لا يوجد نظيره في المتأخرين”.( )
ويذكر كيف يقضي وقته؟ وكيف كانت أيامه في دمشق؟ فيقول:
“وكان كل يوم يقوم إلى الفجر ويصلي الصبح في مسجد قريب من داره في محلة العمارة لا يتخلف عن ذلك إلا لمرض، وكان يتهجد الليل، ويمارس في رمضان الرياضة على طريقة الصوفية، ومازال مثالا للبر والتقوى والأخلاق الفاضلة، إلى أن توفي رحمه الله سنة 1884م”( ).
شيوخ الطربقة النقشبندية في ساحة الجهاد والإصلاح:
وفي عام 1813م، لما هاجم الروس على طاغستان ( ) واستولوا عليها، لم يقم في وجههم إلا هؤلاء النقشبنديون، وحملوا راية الجهاد، وطالبوا بأن يقضى في قضايا المسلمين بالشرع الإسلامي، ويكونوا أحرارا في تطبيق الشريعة في معاملاتهم.
يقول المرحوم الأمير شكيب أرسلان:
“وتولى كبر الثورة ملماؤهم وشيوخ الطريقة النقشبندية المنتشرة هناك، وكأنهم سبقوا سائر المسلمين إلى معرفة كون ضررهم هو من أمرائهم، الذين أكثرهم يبيعون حقوق الأمة بلقب ملك أو أمير، وتبوأ كرسي وسرير، ورفع علم كاذب، ولذة فارغة بإعطاء أوسمة ومراتب، فثاروا منذ ذلك الوقت على الأمراء وعلى الروسية حاميتهم، وطلبوا أن تكون المعاملات وفقا لأصول الشريعة، لاللعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام، وكان زعيم تلك الحركة غازي محمد، الذي يلقبه الروس بقاضي ملا، وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية، وله تأليف في وجوب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع، اسمه: “إقامة البرهان على ارتداد عرفاء طاغستان”.
وفي عام 1832م استشهد الغازي محمد، وحمل لواء خليفته حمزة بك، وجاء بعده الشيخ شامل، وتسلم زمام القيادة، وكان كما يقول المرحوم الأمير شكيب: “صورة للأمير عبد القادر الجزائري، وكان قد انتقل من المشيخة إلى الإمارة”.
واستمر الشيخ شامل في جهاده ضد روسيا نحو (35) سنة، وانتصر عليهم في عدة معارك انتصارا باهرا، وكان الروسيون قد أخذهم الرعب بشجاعته وشهامته، وانسحبوا له عن بلادهم باستثناء بعض الولايات، وقد فتح الشيخ جميع حصونهم وقلاعهم في عام 1843م و1844م، ونال غنيمة كبيرة من الأسلحة والذخيرة، هنالك ركزت الحكومة الروسية كل عنايتها على طاغستان، وزحفت إليها بخيلها ورجلها، وأنشد الشعراء قصائد تثير النخوة، وسيقف إليها العساكر إثر العساكر، ولكن الشيخ شامل استمر في المقاومة والجهاد عشر سنوات أخرى، ولم يضع سلاحه إلا في عام 1859م.
السنوسية، وجهادها الأكبر في أفريقيا:
وأروع مثال لهذا الجمع بين التصوف والجهاد سيدي أحمد الشريف السنوسي، ولقد قدر الإيطاليون أنهم سيفتحون برقة وطرابلس في خمسة عشر يوما، ولكن القواد الإنجليز مارسوا الحرب في المستعمرات، وفي الصحاري، عارضوا هذا الرأي، وقالوا: إنه يدل على تجربتهم في هذا المجال، فقد يمكن أن تستغرق هذه الحرب ثلاثة أشهر، فماذا حدث؟ لقد استمر القتال إلى 13 سنة كاملة، ولم يستطع الإيطاليون في هذه المدة الطويلة أن يخدموا نار الثورة فيها، والفضل في ذلك كله يرجع إلى الفقراء السنوسيين، وإمامهم وشيخ طريقتهم سيدي أحمد الشريف، لقد كتب الأمير شكيب أن بطولة السنوسيين دلت على أن الطريقة السنوسية، هي عبارة عن حكومة بأسرها، بل وهنا عدة حكومات لا تملك من الوسائل ما يملكها رجال هذه الطريقة.
سيدي أحمد الشريف وشخصيته الجامعة:
ويصف الأمير سيدي أحمد الشريف، فيقول:
“وقد لحظت منه صبرا، قل أن يوجد في غيره من الرجال، وعزما شديدا تلوح سيماؤه على وجهه، فبينما هو في تقواه من الأبدال، إذا هو في شجاعته من الأبطال”.
السيد المهدي السنوسي وعنايته الفائقة بالفتوة والفروسية:
إن الصورة الرائعة التي عرضها الأمير شكيب للزاوية السنوسية في صحراء أفريقيا الكبرى، صورة جذابة مثيرة، فيها دروس وعبر، وفيها مسحة من جمال ساحر أخاذ، إن هذه الزاوية كانت تقع في واحة الكفرة، وكان يديرها عم سيدي أحمد الشريف وشيخه السيد المهدي، وكانت أكبر مركز روحي، ومخيم حربي- بلا نزاع- في أفريقيا.
يقول الأمير شكيب:
“فقد كان السيد المهدي يهدي هدي الصحابة والتابعين، لا يقتنع بالعبادة دون العمل، ويعلم أن أحكام القرآن محتاجة إلى السلطان، فكان يحث إخوانه ومريديه دائما على الفراسة والرماية، ويبث فيهم روح الأنفة والنشاط، ويحملهم على الطراد والجلاد، ويعظم في أعينهم فضيلة الجهاد، وقد أثمر غراس وعظه في مواقع كثيرة، لاسيما في الحرب الطرابلسية التي أثبتت بها السنوسية أن لديهم قوة مادية تضارع قوة الدول الكبرى، وتصارع أعظمها جبروتا وكبرا، وليست الحرب الطرابلسية وحدها هي التي كانت شجاعة السنوسيين، بل سبقت لهم حروب مع الفرنسيين في مملكة ” كانم”، ومملكة ” وادي” من السودان، استمرت من سنة 1319هـ إلى سنة 1332هـ.
وحدثني السيد أحمد الشريف أن عمه المهدي، كان عنده خمسون بندقية خاصة به، وكان يتعهدها بالمسح والتنظيف بيده، لايرضى أن يمسحها له أحد من أتباعه، المعدودين بالمئات، قصدا وعمدا، ليقتدي به الناس، ويحتفلوا بأمر الجهاد وعدته وعتاده، وكان نهار الجمعة يوما خاصا بالتمرينات الحربية من طراد ورماية، وما أشبه ذلك، فكان يجلس السيد في مرقب عال، والفرسان تنقسم صفين، ويبدأ الطراد، فلا ينتهي إلا في اخر النهار، وأحيانا يضعون هدفا، ويأخذون بالرماية، حتى كنت ترى طلبة العلم والمريدين أكثرهم فرسانا ورماة، لكثرة ما كان يأخذهم بهذا المران، وكان يجبر الذين يسبقون في الطراد أو يقرطسون في الرمي بجوائز ذات قيمة، ترغيبا لهم في فضائل الحرب، كما أنه كان يوم الخميس من كل أسبوع مخصصا عندهم للشغل في فضائل الحرب، كما أنه كان يوم الخميس من كل أسبوع مخصصا عندهم للشغل بالأيدي، فيتركون في ذلك اليوم الدروس كلها، ويشتغلون بأنواع المهن من بناء، ونجارة، وحدادة، ونساجة، وصحافة، وغير ذلك، لا تجد منهم ذلك اليوم إلا عاملا بيده، والسيد المهدي نفسه يعمل بيده لا يفتر، حتى ينبه فيهم روح النشاط للعمل”.
نشاط السنوسية في الأعمال البنائية والأمور النافعة:
“وكان السيد المهدي، وأبوه من قبله، يهتمان جد الاهتمام بالزراعة، والغرس، تستدل على ذلك من الزوايا التي شيدوها، والجنان التي نسقوها بجوارها، فلا تجد زاوية إلا لها بستان أو بستانان، وكانوا يستعجلون أصناف الأشجار الغربية إلى بلادهم من أقاصي البلدان، وقد أدخلوا في الكفرة، وجغبوب، زراعات وأغراسا لم يكن لأحد هناك عهد بها، وكان بعض الطلبة يلتمسون من السيد محمد السنوسي أن يعلمهم الكيمياء، فيقول لهم: “الكمياء تحت سكة المحراث”. وأحيانا يقول لهم: “الكمياء هي كد اليمين وعرق الجبين”، وكان يشوق الطلبة والمريدين إلى القيام على الحرف والصناعات، ويقول لهم جملا تطيب خواطرهم، وتزيد رغبتهم في حرفهم، حتى لا يزدروا بها، أو يظنوا أن طبقتهم هي أدنى من طبقة العلماء، فكان يقول لهم: “يكفيكم من الدين حسن النية، والقيام بالفرائض الشرعية، وليس غيركم بأفضل منكم”. وأحيانا يدمج نفسه بين أهل الحرف، ويقول لهم، وهو يشتغل معهم: “يظن أهل الأوريقات والسبيحات أنهم يسبقوننا عند الله، لا والله، ما يسبقوننا”( ).
الشيخ حسن البنا، ونصيب التربية الروحية في تكوينه، وفي تكوين حركته الكبرى:
أما الحركات الإسلامية المعاصرة، فقد برزت فيها حركة الإخوان، وهي أعظمها تنظيما وقوة، وهي الحركة الوحيدة التي حملت راية الإصلاح والدعوة، ودعت إلى العودة للإسلام من جديد في العالم العربي، وأكبر ميزاتها أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة، ولها تأثير عميق بارز ملموس على الحياة العامة في الأقطار العربية كلها، وكانت شخصية مؤسسها وقائدها الأول شخصية قوية ساحرة تجمع بين عدة جوانب، إنه كان عملا متواصلا، وسعيا دائبا، وهمة لا يتخللها فتور، وأملا لا يرتقي إليه يأس، وجنديا ساهرا على الثغر لا يناله التعب والعناء، وكان وراء كل هذه الخصائص والسمات عامل قوي لا يستهان به، وهي تربيته الروحية، وسلوكه ورياضته، إنه كان في أول أمره كما صرح بنفسه- في الطريقة الحصافية الشاذلية، وكان قد مارس أشغالها وأذكارها، وداوم عليها مدة ( )، وقد حدثني كبار رجاله وخواص أصحابه، أنه بقي متمسكا بهذه الأشغال والأوراد إلى آخر عهده، وفي زحمة أعماله، وقد تحدث عن حركته في المؤتمر الخامس المنعقد في 1357 هـ، وبين خصائصها، فقال: “دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”.
السيد الإمام أحمد الشهيد، وأتباعه وخلفاؤه، الأبطال المغاوير:
أما في الهند، فترى هناك مزجا غريبا، واجتماعا نادرا بين التصوف والجهاد، يقل نظيره في العالم الإسلامي، أما السيد أحمد الشهيد وحركته ورجاله، فحدث عن البحر ولا حرج، فقد بلغ جمعه العجيب بين هذا وذاك، وتفوقه في كلا الجانبين إلى حد التواتر، وأصبح من المسلمات في هذه البلاد، أن ذلك الشوق إلى الجهاد، والحنين إلى الشهادة، والحب في الله، والبغض في الله، الذي تحلى به أصحاب السيد أحمد الشهيد- رحمه الله- تذكرنا بالقرون الأولى، وإذا اطلعنا على تاريخهم، علمنا أنه كان نفحة من بقايا النفحات في القرن الأول، هبت في القرن الثالث عشر، فأحيت الأرض بعد موتها، وبرهنت على أن الإيمان، والتوحيد والصلة الصحيحة والإيثار والفداء من غير روحانية صافية مشرقة، وعاطفة إصلاح قوية راسخة، حلم لا يتحقق، وغاية لا تنال.
وكان من أتباعه وخلفائه أمثال السيد نصير الدين، ومولانا ولائت علي عظيم ابادي، على قدمه من هذا الجمع النادر العجيب، وتبعهم مولانا يحيى علي، ومولانا أحمد الله صادقبوري.
إن أحاديث جهادهم ومحنتهم، وصبرهم على المكروه، واحتمالهم الشدائد، تذكرنا بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، فتارة نراه على متن الخيل، وتارة في مشنق “أنباله”، وتارة في منفى جزيرة أندمان في المحيط الهندي، وتارة في زاويته وبين مريديه يعلمهم أشغال الطريقة المجددية، والطريقة المحمدية، طريقة السيد أحمد الشهيد، وإذا وضعنا تضحيات أهل الهند كلها في كفة ميزان، ووضعنا تضحيات أهل صادقبور وجهادهم في كفة أخرى، رجحت هذه الكفة الأخيرة.
علماء الهند وشيوخها، في ساحة الحرب، وميدان الإصلاح:
وقد استمر هؤلاء الشيوخ من بعدهم في الجهاد في سبيل الله، فرأينا الشيخ الكبير الحاج إمداد الله المهاجر المكي، والشيخ الحافظ ضامن، والشيخ محمد قاسم النانوتوي، ومولانا رشيد أحمد الكنكوهي في ساحة “شاملي” يقاتلون الإنجليز، ويستشهد الشيخ ضامن في ساحة الجهاد، ويضطر الشيخ إمداد الله إلى الهجرة، ويضطر الشيخ النانوتوي، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي إلى التستر والخفاء مدة من الزمان، وكان الشيخ أحمد الله شاه، والشيخ لياقيت علي من المشايخ الكبار الذين قادوا الجيوش لقتال الإنجليز في ثورة 1857م الكبرى، وتولوا كبرها، واستشهد بعضهم، وقتل بعضهم شنقا.
ثم جاء بعدهم الشيخ محمود حسن الديوبندي- الذي لقب بحق، شيخ الهند- وأعد عدته للجهاد ضد الإنجليز، وأراد إنشاء حكومة مستقلة في الهند، فيها الأمر والنهي للمسلمين، ودفعه طموحه وهمته إلى الاتصال بتركيا، والانسجام معها على خطة الثورة والجهاد، إن الرسائل الحريرية، والاجتماع بأنوار باشا، واعتقاله في جزيرة “مالطا”، كل ذلك يدل على علو همته، ونشاطه الدائب المستمر، وصدق الله العظيم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) الأحزاب 23.
الشواذ من المستسلمين والخائنين، لا يحكم بهم على القوم:
فكيف يصح القول – إذا- مع هذه الشهادات المتواترة المتلاحقة، أن التصوف هو رمز البطالة والكسل، والفرار عن معترك الحياة، والانسحاب عن ميدان الكفاح والنضال؟ فإذا وجدنا هناك أمثلة شاذة لبعض أصحاب الطريقة والمتصوفين الذين آثروا الانعزال ، ومالأوا بعض الحكومات الأجنبية، أو خدموها، فهناك في جانب آخر عدد أكبر من أئمة التصوف، وشيوخ الطريقة الذين فاقو أولئك المتصوفين المنتسبين في الطريقة، ومكانتهم الروحية السامية، وامتازوا عنهم في الكفاح والجهاد، والقتال والنضال، والبقاء في معترك الحياة.
المحب الصادق لا يعرف للحياة قيمة، ولا يحسب للمخاوف حسابا:
إن التصوف، إذا وجد في صورته الأصلية الصادقة، وانسجم مع منهاج النبوة وحمل راية اليقين والحب- التي هي من أهم أغراضه ونتائجه- فإنه ينفخ في أبنائه روح العمل، والشوق إلى الجهاد، وعلو الهمة والطموح، والحنين إلى الشهادة، والتقشف والجلادة، فإنه إذا تدفق ينبوع الحب الإلهي في قلب الإنسان تغنى وجوده وكيانه بما أنشده الشاعر الفارسي:
“أيها الرجل الذي يتغنى بالحب، ويتشدق بالكلام عنه، تجرد عن ذاتك، واعرض نفسك للمهالك، وقابل الموت وجها لوجه، وإلا فدع الانتساب إلى هذا الطريق وأهله”.