مداخلة الدكتور عبد الرحيم المصلوحي، أستاذ العلوم السياسية بالرباط
فضيلة الشيخ مولاي إسماعيل بصير شيخ الزاوية الدرقاوية البصيرية؛
السادة المنتخبون،
السيد الرئيس شعبة القانون العام والعلوم السياسية بكلية الحقوق بالرباط أكدال؛
السادة رؤساء المصالح الإدارية
السادة شيوخ القبائل الصحراوية؛
السادة مريدي الطريقة الدرقاوية البصيرية؛
السادة الحضور.
يسعدني أن أكون بين ظهرانيكم في هذه الأمسية الروحانية، وأنا قادم من مدينة الرباط من كلية الحقوق بأكدال، التي عاهدت وآلت على نفسها بأن تكون دائما من ضيوف الرحمان لدى فضيلة الشيخ مولاي إسماعيل البصير.
وأنا هنا لكي أدلي بدلوي في قضية وطنية يعتبرها المغاربة قاطبة، قضيتهم الأولى.
تعلمون أن صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله، والشعب المغربي، جعلوا من هذه القضية منذ على الأقل تسعينيات القرن الماضي، قضيتهم الأولى، وما فتئوا يولونها الأولوية على المستوى السياسات العمومية التي تهتم بالساكنة من حيت التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
المغرب اليوم عرف إصلاحا دستوريا، جعل منه نموذجا في تثبيت الديمقراطية في عالم عربي غير مستقر، ويعرف أوراشا مهيكلة إصلاحية لها امتداد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ومن بينها كما تعلمون، أيها السيدات والسادة الحضور، أوراش إصلاح القضاء، وأيضا الورش المهيكل الرئيسي الذي هو ورش الجهوية الموسعة.
مداخلتي ستنصب حول الحكم الذاتي كمشروع قدمه المغرب بشكل طوعي للمجتمع الدولي لكي يبين حسن نيته وإرادته في حل دائم وعادل لهذه القضية.
وسأتناول هذه القضية من بابين، الباب الأول: يتعلق بالبعد التنموي الذي أولاه المشروع أولوية خاصة، ويتبين هذا من المؤشرات التي سأذكرها؛ أما الباب الثاني أو السيمة الثانية التي سأتطرق إليها، فهي تهم الطابع الموسع والمتقدم للاختصاصات التي أسندها مشروع الحكم الذاتي لجهة الصحراء.
نبدأ بالبعد التنموي، تعلمون أيها السيدات والسادة الحضور، أن مؤشر التنمية البشرية عموما في أقاليم الصحراوية هو أعلى من المعدل الوطني، عندما نقول هذا، فنحن نستند إلى إحصائيات صدرت عن مؤسسات دولية مستقلة، خاصة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأعطي هنا بعض الأرقام فيما يتعلق بنسبة الفقر، تعلمون جيدا بأنه مقارنة بين الجهات الثلاث المكونة للصحراء المغربية، والمعدل الوطني، هناك تفاوت كبير، فالمعدل الوطني لنسبة الفقر هو 14,2 بينما لا يكاد يصل في جهة وادي الذهب والكويرة إلى2,8 و6,3 بالنسبة لجهة العيون بوجدور الساقية الحمراء، وبنسبة 13.1 لجهة كولميم السمارة.
عموما فيما يتعلق بالبعد التنموي، رأينا بأن المغرب، منذ استرجاع هذه الأقاليم في أواسط سبعينيات القرن الماضي، قام بأوراش تنموية كبرى، جعلت من هذا الفضاء الذي يمتد كامتداد للتراب الوطني يتميز بمجموعة من الأوراش المهيكلة التي جعلت هذه المنطقة كسائر المناطق الأخرى التي تميزت بنمو كبير بعد الاستقلال، والشهادة هنا لعالم في الاقتصاد الفرنسي يقول: بأن إرادة المغرب في هذه المنطقة الصحراوية العزيزة كانت أقوى من الرمال، هناك دراسة قام بها أحد الاقتصاديين المغاربة في 2008م، وأعطت من الحجج والبراهين ما يبين الجهود التنموية التي قام بها المغرب.
إذن المسألة هنا هي مسألة سياسات عمومية ومطالب اجتماعية، عندما نرى بعض الاحتجاجات في الصحراء، وهذا شيء طبيعي، يقع في كل بلدان العالم، فالاحتجاجات هنا لا تكون نابعة من مطالب انفصالية، وإنما من مطالب اجتماعية، الشباب يطلب التشغيل، التعليم، والسكن، والواقع أن القلة الانفصالية هي التي تغتنم هذه الفرصة لكي تمرر خطاباتها الانفصالية.
مشروع الحكم الذاتي ينبني على هذه المرجعية، مرجعية تنمية هذه الأقاليم لكي تصبح الجهة مجالا لإنتاج الخيرات وتوزيعها بشكل عادل.
وعلى أرض الواقع، هناك جهود بدأها المغرب على الأقل منذ 20 سنة، فمثلا مؤسسة تنموية تمثل كل أطياف النخبة الصحراوية، ويتعلق الأمر بـ”الكوركاس” المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، الذي يشمل تمثيلية لا بأس بها من النخب الصحراوية، والذي أنيطت به مهمة أساسية وهي دعم مسار التنمية من خلال قوته الاقتراحية، والترافعية، هناك أيضا وكالة تنمية الأقاليم الجنوبية، وهناك أيضا شبكة من المندوبيات الإقليمية للوكالة التنمية الاجتماعية، التي تسهر على تنفيذ برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها صاحب الجلالة منذ أبريل 2005.
وبالعودة إلى مشروع الحكم الذاتي، هذا المشروع الذي يكرس اختصاصات واسعة النطاق في مجال تدبير السياسات العمومية على أساس مبدأ التفريع والتدبير الحر، ماذا نقصد بالتفريع؟ نقصد أن الاختصاص يعود في الأصل للجهة، والدولة لا تتدخل إلا إذا كانت القدرات المالية والتقنية والبشرية للجهة غير قادرة على مواكبة المشاريع.
فهنا مشروع الحكم الذاتي يؤسس لخمسة أقطاب من الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، مما يجعل هذه الجهة قادرة على إدارة سياسات عمومية تنموية.
القطب الأول هو قطب الإدارة المحلية والشرطة المحلية، والقطب الثاني هو قطب اقتصادي، ويشمل التنمية الاقتصادية والتخطيط الجهوي وتشجيع الاستثمار والتجارة والصناعة والفلاحة والسياحة والضرائب المتعلقة بالجهة.
أما القطب الذي لا يقل أهمية فهو قطب البنيات التحتية، ويشمل الماء والتجهيزات الهيدروكهربائية، وأيضا قطاع النقل الأشغال العمومية والقطب الرابع والأهم وهو القطب الاجتماعي الذي يشمل السكن والصحة والتعليم والرياضة والتشغيل والضمان الاجتماعي، وأخيرا القطب الثقافي الذي يشمل سياسة الحفاظ على التراث الثقافي الحساني، والحفاظ على البيئة.
كما نلاحظ أن هناك بعض الاختصاصات المهمة التي تم نقلها إلى جهة الصحراء في إطار مشروع الحكم الذاتي، ولم يتبق في هذا المشروع للدولة المركزية، إلا بعض الصلاحيات السيادية التي تسند بشكل تقليدي إلى الدولة المركزية حتى في التجارب المتقدمة في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، الدولة المركزية تبقي الصلاحيات السيادية التي لا يمكن للدولة الوطنية أن تكون بدونها، ويتعلق الأمر بالمشروع الذاتي بالعلم والنشيد الوطني والعملة الوطنية.
الصلاحيات الدستورية المسندة إلى جلالة الملك بصفته أميرا للمومنين وأيضا بصفته حاميا وضامنا للحريات الفردية والجماعية، الأمن الوطني والدفاع الخارجي والعلاقات الخارجية والنظام القضائي للمملكة، ماعدا هذه الصلاحيات، كل الاختصاصات تبقى مخولة لجهة الصحراء، بل أكثر من هذا حتى العلاقات الخارجية التي تهم مباشرة جهة الصحراء، الدولة لا تباشرها إلا بتنسيق وبتشاور مع مؤسسات الجهة، ونحن نعلم أيضا هنا بعدا آخر يتفرد به مشروع الكم الذاتي وهو إيلاءه أهمية لسلطة البرلمان بما يتعلق بالتشريع.
بداية لكي نميز بين الحكم الذاتي والجهوية المتقدمة، فالحكم الذاتي ليس جهوية ذات صبغة إدارية بل جهوية سياسية بامتياز بالنظر إلى طبيعة المؤسسات التي سيتم إحداثها، ويتعلق الأمر بداية بمؤسسة التشريع بمعنى البرلمان الجهوي، المغاربة القاطنين في جهة الصحراء سيكون لهم الحق في انتخاب برلمان جهوي يمارس السلطة التشريعية، بمعنى له حق التشريع وإصدار قوانين تهم السياسات العمومية الجهوية، هذا البرلمان يتكون من فئتين: فئة ينتخبها المواطنون المقيمون بالصحراء بشكل مباشر عن طريق الاقتراع المباشر، وفئة تنتخبها القبائل الصحراوية، وهذا يبدي العناية السامية التي تعطى لهذه القبائل الصحراوية كإطار للتنشئة الاجتماعية، ونظرا أيضا لدورها في الدود عن حوزة الوطن والوحدة الترابية.
البرلمان حسب مشروع الحكم الذاتي يقر تمثيلية عادلة للنساء داخله، خاصة وإننا نعلم بأن المرأة الصحراوية ساهمت جنبا إلى جنب مع الرجل في تنمية المنطقة الصحراوية، وفي الدفاع عن حوزة الوطن، وخاصة أيضا وان المرأة الصحراوية لها حضور قوي في البرلمان المغربي من خلال تمثيلية وازنة.
والمؤسسة الثانية وهي لا تقل أهمية عن البرلمان، ويتعلق الأمر بالحكومة الجهوية الطابع السياسي للحكم الذاتي، يبدو من خلال الوصف الذي أعطي للجهاز التنفيذي الذي سمي حكومة، لأول مرة المغرب يقر إمكانية إحداث حكومة على المستوى الجهوي، وهي تمارس السلطة التنفيذية تحت إشراف رئيس حكومة ينتخبه البرلمان الجهوي، وهذا البرلمان يمارس رقابته على الحكومة المحلية، هذه الحكومة أيضا لها اختصاصات واسعة فيما يتعلق بإدارة الشأن العام.
وهناك أيضا المادة 22 إلى 24 تنص على السلطة القضائية على مستوى جهة الصحراء وتضم محاكم يمكن للبرلمان الجهوي أن ينشئها، وتضم أيضا، وهذا الشيء مهم محكمة جهوية عليا التي ستفصل في النزاعات المتعلقة بتأويل القوانين التي سيصدرها البرلمان الجهوي بالإضافة إلى مؤسسة أخرى لا تقل أهمية والأمر يتعلق بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي سيواكب السياسات الاقتصادية والاجتماعية على مستوى هذه الجهة، والذي سيتشكل من نخبة تمثل القطاعات الاقتصادية والمجتمع المدني والمهنيين وكفاءات صحراوية ووطنية.
أختم سيدي الرئيس بإبراز الضمانات الأساسية التي أقرها مشروع الحكم الذاتي بالنسبة للمواطنين المغاربة المنحدرين من أصول صحراوية.
الضمانة الأولى، وهي ساكنة الصحراء، وهذا تنص عليه المادة 25 ستتمتع بدون تمييز بالحقوق والحريات التي أقرها الدستور المغربي، بدون تمييز مع باقي المغاربة في الجهات الشمالية.
الضمانة الثانية، وهي تنص عليها المادة31 وهي أنها بعد إنهاء عملية التفاوض، سيتم إقرار قانون عفو العام يلغي كل متابعة أو مضايقة.
والضمانة الثالثة، تلتزم الدولة في المادة 32 في المرحل الانتقالية بالإدماج الاجتماعي والاقتصادي لكل وحدات المحاربة، السكان المحتجزين، وذلك من خلال مجلس انتقالي يضم ممثلين عن الطرفين.
الضمانة الرابعة، وهي جد مهمة تم إدماجها في المادة 27 وتتعلق باحترام إرادة الساكنة الصحراوية من خلال استفتاء شعبي يقبل أو يرفض بموجبه السكان مشروع الحكم الذاتي، بمعنى بخلاف ما يروج له خصوم الوحدة الترابية، الأمر سيتم قبوله في إطار الاستفتاء ولن يفرض أي شيء على هذه الساكنة، بل سيعطى لها الحق في تقرير المصير، والحق في تقرير المصير هنا لا يعني بالضرورة الانفصال دائما، هناك إمكانية للاندماج بمعنى حرية الاختيار هي الأساس.
والأكثر من هذا، مشروع الحكم الذاتي نفسه يطرحه المغرب كأرضية للتفاوض مع خصوم الوحدة الترابية وهو لا يفرض شيئا، وإنما يطرح أرضية للنقاش والتفاوض.
وهناك ضمانة أخيرة وهي مهمة، يجب أن نقف عندها في المادة 29 وهي أن مشروع الحكم الذاتي سيتم بعد قبوله من طرف الساكنة عن طريق الاستفتاء إدماجه في الدستور المغربي لإعطائه حصانة قانونية ولإعطائه استقرارا فيما يتعلق بالمنظومة القانونية الوطنية.
المغرب هنا كما تعلمون طيلة هذه المواد التي ذكرت، يربط دائما بين مشروع الحكم الذاتي وبين الشرعية الدولية الممثلة في قرارات الأمم المتحدة، ونعلم جيدا بأن المغرب يسعى جاهدا إلى إقرار حل نهائي عادل ومنصف للطرفين من خلال هذا المقترح الجدي.
المغرب يكون قد استنفذ كل السبل الشرعية لحل هذا الملف، والكرة كما تعلمون منذ أبريل 2007 وهو الشهر الذي أودع فيه المغرب مشروع الحكم الذاتي لدى الأمم المتحدة، الكرة في مرمى خصوم الوحدة الترابية.
تعلمون أيها السيدات والسادة بأن تفكك الدولة التاريخية أصبح شيئا عاديا في ظل الفوضى التي تميز الإقليم العربي، السودان الشقيق قسم إلى جنوب وإلى شمال دون أن يعرف الجنوب استقرارا أو تنمية، هناك مصير آخر نخشى أن تلقاه دول شقيقة وعزيزة، والأمر يتعلق بالشقيقة ليبيا وربما اليمن، والعراق الذي منذ عشرة من السنين على الأقل يعاني من انشقاق وطني.
الدولة الوطنية، لكي أختم هي كنز ثمين يجب أن نعرف كيف نحافظ عليها،
ختاما الفضل كل الفضل يرجع إلى قطب الطريقة الدرقاوية البصيرية التي جمعتنا في هذه الأمسية الروحانية والفكرية في الوقت نفسه، وأنا هنا أجدد شكري لمولاي اسماعيل وأنقل له تحيات زملائي في كلية الحقوق بالرباط.