شكر النعم (4) نعمة الأمن
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده تعالى على فضله وإحسانه حمدا كثيرا،
ونشكره سبحان وتعالى على نعمه التي أسبغ علينا بكرة وأصيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعانا للتفكر في آلاء الله ونعمائه، وشكرها في قوله: “وأما بنعمة ربك فحدث”،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، سيد من عرف نعم الله فشكره عليها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسنته السائرين على نهجه الشاكرين لنعمائه، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمع الماضية تحدثنا عن موضوع شكر النعم، وضربنا الأمثلة من القرآن والحديث النبوي الشريف عن أحوال الشاكرين لنعم الله والمتنكرين لها، واليوم بإذن الله تعالى نعرح على نعمة من أجل النعم التي حبانا الله بها في بلدنا هذا وهي نعمة الأمن، فأقول وعلى الله الإتكال،
أيها الإخوة المؤمنون الصالحون، ينبغي علينا أن نكثر من الشكر لله عز وجل على نعمه التي لازالت علينا تتوالى، وأجل هذه النعم أن جعلنا من أمة الإسلام وملأ قلوبنا بالإيمان، وشرح صدورنا بالقرآن، وامتن علينا بنعمة الأمن والأمان، هذه النعمة التي هي شرط لتحقيق كرامة هذا الإنسان، وقد ذكرها المولى عز وجل على سبيل الإمتنان بما أفاضه على الأمم السابقة وعلى قريش التي نزل فيها القرآن، فقال عز وجل: على لسان سيدنا إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا المصطفى أزكى الصلاة والسلام: “ربِّ اجعل هذا البلدَ أمنًا”، وذلك لتستقيم الحياة فيه لأهله فاستجاب الله دعاءَه فقال سبحانه: “وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا”، إذ لا عيش بدون أمن ولا كرامة بدون أمن.
وإذا تأملنا القرآن الكريم فإننا نجد هذه النعمة أساسا لكل حضارة قال تعالى: ” وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا”، وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح نحتَهم بيوتَهم من غير خوفٍ ولا فزع، فقال عنهم: “وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ”، وأنعمَ اللهُ على سبَأ وأغدَق عليهم الآلاء المتتابعةَ وأسكنهمُ الدّيار الآمنة، فقال جل وعلا: “وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ”.
ويوسفُ عليه السلام يخاطبُ والدَيه وأهلَه ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئنّ فيه نفوسهم “وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ”، بل إن من النعم التي يحتاجها المرء وهو في بحبوحة الجنان أن ينعم بالترحيب الملائكي وهو يدخلها كلام الترحيب: “ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ”، فلا خوفَ ولا فزعَ، قال تعالى: ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ”، وقال أيضا: “وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ”.
أيّها المسلمون، لقد جمعت شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدينَ وحفِظت العقول وطهَّرتِ الأموال وصانت الأعراض وأمَّنت النفوس، أمرتِ المسلمَ بإلقاء كلمة السلام والأمن والرحمةِ والاطمئنان على أخيه المسلم إشارةً منها لنشرِ الأمن بين الناس، وأوجبت حفظَ النفس حتى في مظِنَّة أمنها في أحبِّ البقاع إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام:”إذامَر أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نَبلٌ فليمسِك على نِصالها -أو قال: – فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء”،
كما حذَّرت من إظهارِ أسباب الرَّوع بين صفوفِ المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: “لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينزِع في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار”، وحرَّمت على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسّلاح ولو مازحًا، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه”، لأن ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال.
وإلى جانب ذلك دعا الإسلامُ إلى كلِّ عمل يبعَث على الأمن والاطمِئنان بين صفوفِ أفراده، وأمر بإخفاء أسباب الفزَع في المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: “لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا”، ولمَّا دخل النبيّ عليه الصلاة والسلام مكَّة عامَ الفتح، منح أهلَ مكَّة أعظمَ ما تتوُق إليه نفوسهم، فأعطى الأمانَ لهم وقال: “من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن”.
وما شُرعت الحدود العادِلة الحازمة في الإسلام على تنوُّعها إلاَّ لتحقيقِ الأمن في المجتمعات، جعلني الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، اعلموا أن أعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن ضدّ الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق، فالأمن أصل من أصول الحياة البشرية، لا تزدهر الحياة ولا تنمو ولا تخلو بغيره، فأي قيمة للمال إذا فقد الأمن؟، وكيف يطيب العيش إذا انعدم الأمن؟، وكيف تنتعش أمور الحياة بدون أمن؟
بالأمن والإيمان تتوحَّد النفوسُ، وتزدهِر الحياة، وتغدَق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتُتَلقَّى العلومُ من منابعها الصافية، ويزدادُ الحبلُ الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثَّق الروابطُ بين أفراد المجتمع، وتتوحَّد الكلمةُ، ويأنس الجميعُ، ويتبادل الناسُ المنافع، وتُقام الشعائر بطمأنينة، وتقُام حدود الله في أرض الله على عباد الله..
وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحّ ويبادَر إلى تصديق الخَبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، وتُهجَر المساجد ويمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه، وباختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال.
إذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع، قال سبحانه: “فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”.
فاتقوا الله عباد الله واشكروه على نعمه التي أسبغها عليكم، وحافظوا على أمن بلادكم ودياركم، واتعظوا بمن حولكم من الشعوب التي حرمت هذه النعمة، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
الدعاء…