خلق الزهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، الممتن على عباده ببعثة سيد المرسلين، سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، والقائل في كتابه الحكيم: “لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم

يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة”، نحمده تعالى ونشكره على فضله العميم،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمدا صاحب الخلق العظيم، القائل “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمع الماضية تعرفنا على بعض الجوانب من أخلاق رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي ينبغي على المسلم أن يتصف و يتأسى بها، واليوم ننتقل بكم إلى صفة  رفيعة من صفات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي صفة الزهد التي ميزت حياة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم،
والزهد هو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلبًا لراحة الآخرة وأن يخلو قلب الإنسان مما خلت منه يداه، ومما يعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: “كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا”، وسماها الله: “مَتَاعُ الْغُرُورِ”، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا من الوقوع في مثل مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها، وعلمنا أن وراءها دارًا أعظم منها قدرًا وأجل خطرًا وهي دار البقاء
وبالزهد في الحياة الدنيا وزينتها وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فتعالوا بنا نكتشف هذه الصفة عند إسوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها  قالت: “ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز حتى مضى لسبيله”، وفي رواية أخرى: “من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء الله لأعطاه ما لا يخطر ببال”، وفي رواية أخرى: “ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز بر حتى  لقي الله عز وجل”، وقالت أيضا: “ما ترك رسول الله  صلى الله عليه وسلم دينارا، ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا”.
وفي حديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه: ” ا ترك إلا سلاحه، وبغلته، وأرضا جعلها صدقة”، قالت عائشة رضي الله عنها: ” ولقد مات، وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رق لي . وقال لي: “إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب، أجوع يوما، وأشبع يوما، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك، وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك، وأثني عليك”.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “إنا كنا آل محمد لنمكث شهرا ما نستوقد نارا، إن هو إلا التمر والماء”، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ” هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير”،  قال ابن عباس رضي الله عنه: “كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء”.
وعن أنس رضي الله عنه: “ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة، ولا خبز له مرقق، ولا رأى شاةسميطا قط”، وعن عائشة رضي الله عنها: ” إنما كان فراشه صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدما حشوه ليف”، وعن حفصة رضي الله عنها قالت: “كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته مسحا نثنيه ثنيتين، فينام عليه، فثنيناه له ليلة بأربع، فلما أصبح قال: ما فرشتموا لي الليلة؟ فذكرنا ذلك له، فقال: ردوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي”، وكان صلى الله عليه وسلم ينام أحيانا على سرير مزمول بشريط حتى يؤثر في جنبه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “لم يمتلئ جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعا قط، ولم يبث شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحب إليه من الغنى، وإن كان ليظل جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض، وثمارها، ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك! فيقول: يا عائشة، ما لي وللدنيا، إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم، فأكرم مآبهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم، وما من شيء هو أحب إلي من اللحوق بإخواني، وأخلائي. قالت: فما أقام بعد إلا شهرا حتى توفي صلى الله عليه وسلم”.
جعلني الله وإياكم من المهتدين بهديه صلى الله عليه وسلم، المقتفين أثره والمتمسكين بسنته، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
حسبك من زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا  وتقلله منها، وإعراضه عن زهرتها، ما سمعت، وقد سيقت إليه الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، وهو يدعو، ويقول: “اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا”.
وفي حديث آخر أن جبريل نزل عليه، فقال له: إن الله  تعالى يقرئك السلام، ويقول لك: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا، وتكون معك حيثما كنت، فأطرق ساعة، ثم قال: يا جبريل: إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، قد يجمعها من لا عقل له، فقال له جبريل: ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت”.
فأيننا نحن اليوم من هذه الصفة التي تركناها جريا وراء ملذات الحياة الدنيا، ولا نبالي بأي وسيلة أو بأي كيفية نتحصل عليها، فاستخدمنا الحيل، وتعلمنا النصب على إخواننا وجرينا وراء الربا نطلبه ونشحع عليه وغششنا أمتنا، وارتمينا على حقوق إخواننا وأخواتنا، ومنعنا الإرث عن أصحابه الشرعيين، وغير ذلك من الطرق التي جعلناها مطية للإستزادة من خير الدنيا، ونسينا أن لنا يوما نرجع فيه إلى الله، فيحاسبنا على النقير والفتيل والقطمير، وعلى دقائق الأموال من أين اكتسبناها وفيما أنفقناها، فيا سعادة من كان مكسبه من حلال وإنفاقه في أوجه البر، وكان في حياته متأسيا بسيد المرسلين.
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *