خطبة: الشتاء ربيع المؤمن – 1
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لعباده المؤمنين مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات ويتطهرون بها من أدران السيئات، وسن لهم أياما يجعلونها مطية لإكثار من أنواع القربات
ويشكرونه خلالها على ما أنعم به عليهم من صنوف المكرمات، نحمده تعالى ونشكره على نعم لا تزال تتوالى على ممر الأوقات،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو خالق الأرض والسماوات، سبحانه لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وما له من الأسماء والصفات، القائل: “إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـٰوٰتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَـٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى الاْلْبَـٰبِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـٰوٰتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار”، ِ
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أول مسارع لفعل الخيرات، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا سباقين إلى اغتنام الفرص للإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات والتقرب إلى بارئ الأرض والسماوات، وسلم تسليما كثيرا ما غشيت العباد الرحمات،
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن تقلّب الزمان وتصرفَ الأحوال من حر إلى قَر ومن صيف إلى شتاء، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده، وها نحن الآن ننعم بفصل الشتاء الذي حلّت بوادره وتنزَّل برده، طال ليله وقصر نهاره،
ولنا معاشر المؤمنين مع الشتاء أحوال وأحكام، حيث نتفاعل مع التغيرات الكونية والأحوال المناخية وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فيتحقّق إيماننا وتتوثق صلتنا بربنا سبحانه وتعالى، فإن تقلب الأحوال الكونية من صيف وشتاء وليل ونهار وجفاف وأمطار وسكون ورياح من شأنه أن يعزِّز إيمان المؤمن بأن الله تعالى خالق الكون ومدبره، القائل: “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير”، أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الشتاء ربيع المؤمن”، وزاد البيهقي وغيره: “طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه”، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “مرحبا بالشتاء، تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام”، ومن كلام يحيى بن معاذ رضي الله عنه قوله: “الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنّسه بآثامك”.
أخي المؤمن، إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع خلال أيامه ولياليه في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة، فإذا ما هطلت الأمطار أقر بفضل الله ونعمته، ومن هذه القربات تحري الدعاء حين نزول المطر، فهو من الأوقات الفاضلة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “ثنتان ما تردان: الدعاء عن النداء وتحت المطر”، والدعاء عند هبوب الرياح لقوله صلى الله عليه وسلم: “الريح من روح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها”، كما سن الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء عند سماع الرعد بقوله: “سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته”.
أيها المؤمنون، اعلموا ـ حفظكم الله ـ أن للشتاء أحكامًا شرعية وآدابًا نبوية، ينبغي للمؤمن أن يتحراها لتكتمل عبادته ويتم له أجره وثوابه ويقتدي بسنة نبيه ، منها إسباغ الوضوء وإتمامه، فلا يعجله الشعور بالبرد عن إكمال الوضوء لأعضائه وإتمامها، بل إن ذلك الإتمام والإسباغ وقت المكاره هو مما يكفر الله به الخطايا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟” قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط”، والمكاره تكون بشدة البرد أو الحر أو الألم، فيحتسب المسلم تلك الشدة وهو يتوضأ بأنها من مكفرات الخطايا ورافعات الدرجات.
أيها المؤمنون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس بالشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير، وهو شدة البرد”. فإذا ما وجد المرء لسعة البرد تذكر زمهرير جهنم، فاستعاذ منها، وسأل الله تعالى برد الجنة ونعيمها بأعمال يجعلها مطية للفوز والقرب من رضا رب العالمين، قال تعالى واصفا حال عباده في الجنة “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَـٰهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا”.
فاللهم اهدنا الصراط المستقيم، واحشرنا في زمرة النبيئين والصديقين، ووفقنا لطاعتك في كل وقت وحين، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، من مواطن العبرة والذكرى للمؤمن حين يرى الأرض وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، حيث أحياها ربنا جل وعلا بالمطر بعد موتها، فليعلم حينها أن القرآن وذكر الله تعالى يحيي القلوب بعد موتها وغفلتها، وهذا ما أشار إليه القرآن حين ذكر استبطاء الله تعالى لخشوع قلوب المؤمنين فقال عز وجل: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”، فالله تعالى يحيي القلوب بالقرآن كما يحيي الأرض بالمطر، فمن وجد غفلة في نفسه وقسوة في قلبه فليقبل على كتاب الله تعالى تلاوة وتدبّرا، فإنما هو هدى ورحمة للمؤمنين وموعظة وشفاء للمتقين، ولنا إن شاء الله تعالى عودة إلى الموضوع في الجمعة المقبلة.
الدعاء…