تقديم خادم الطريقة البصيرية إسماعيل بصير لكتاب: “نعت البدايات وتوصيف النهايات”
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فقد اطلعت على العمل المبارك المتميز الذي أنجزه فضيلة الأستاذ العالم، حبنا الأصفى، مقدم الطريقة البصيرية بسيدي بنور، السيد عبد الهادي السبيوي – حفظه الله-، في إطار أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه بشعبة اللغة العربية، وحدة تحقيق وتوثيق التراث الشفهي والمكتوب التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك المحمدية، ويتعلق الأمر بكتاب: “نعت البدايات وتوصيف النهايات”، لمؤلفه الشيخ أبي عبد الله محمد المصطفى ماء العينين بن محمد فاضل بن مامين، حيث وفقه المولى عز وجل لدراسة وتحقيق هذا العمل المتميز، واستحق من خلاله أن ينال شهادة الدكتوراه سنة 2012م، وذلك بميزة مشرف جدا مع تنويه لجنة المناقشة وتوصية بالطبع.
ويعتبر كتاب “نعت البدايات وتوصيف النهايات” من أهم الكتب التي عنيت بالتصوف، وخاضت في أسراره ودقائقه، وتناولت جوانبه بالشرح والتحليل والتفسير، وهو من أنفس الكتب التي اهتم الناس بها وحرصوا على امتلاكها وقراءتها والاغتراف من معينها، والاستفادة من فوائدها ولطائفها منذ تأليفه إلى اليوم، كيف لا وقد رسم فيه المؤلف خطة تربوية سلوكية تشمل عمل الشيخ والمريد على حد سواء، سعى من خلالها إلى توضيح المسالك لكل سالك، ورسم معالم التربية الصوفية السنية، وهو المقصد الأسنى من هذا التأليف، وهذا ما أشار إليه المؤلف رحمه الله في فاتحة الكتاب حيث قال: “إنه لما كانت وجوه التقرب إلى الله كثيرة، ومن أفضلها العلوم المعمول بها المنيرة، التي تهدي إلى الآداب الجمة الغزيرة، وكان علم التصوف من أفضلها وأجملها وأجلها لأنه علم صلاح القلوب، وبه تهذيبها من العيوب، وبه انكشاف الحجب عنها لمشاهدة الغيوب، وله كغيره شروط لا بد لطالبه منها، ولا يستغني في بدايته ونهايتها عنها، وقد وضع القوم فيه كتبا جديدة، وافية بشروطه، حسنة جزلة، لكن قصر عنها وعن شروطها أهل هذا الزمن، وتعذر عليهم إتباع معرفتها لكون تحريك علو هممهم سكن، وذلك وقع فيهم لأجل مؤلفتهم للمألوفات الداعية للوهن وعدم مجاهدتهم لأنفسهم لينقل عنهم ما فيهم منها عدن، ومع ذلك كثر فيهم للبدايات والنهايات المدعون الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون، ولذلك قيل بلسان الحال والمقال، إنا لله وإنا إليه راجعون، دعت الحاجة إلى وضع تصنيف فيه يبين وصف المريد وشيخه مربيه، وما يجب على كل منهما فيما يليه، وسميته “نعت البدايات وتوصيف النهايات”…..
وبتقليبي النظر في صفحات هذه الأطروحة الجامعية، وجدت الباحث المحقق قام بتحقيق الكتاب المذكور تحقيقا علميا مفيدا مبرزا مكانة الكتاب العلمية، ومضيفا بعض التعليقات المفيدة للقارئ وللطالب وللباحث في مجال التصوف والتاريخ والأدب خصوصا، والتراث الإسلامي عموما، مما جعل الكتاب يخرج من خلال هذه الدراسة الأكاديمية المكتملة في حلة جديدة مفيدة، تعطي نظرة شمولية عن المؤلف وعن عصره وعن محتويات الكتاب وطريقة تأليفه، ناهيك بعزو كل كلام إلى قائله بعد التحقق من صحته، كما ظهر الشيخ ماء العينين رحمه الله في هذا المؤَلَّف عالما جليلا ومربيا عارفا، قوي الارتباط بالسنة، عاضا عليها بالنواجذ، سائرا على هدي السلف الصالح، مقتفيا لأثرهم في إعلاء منارة الفقه والعلم، ورفع صرح الثقافة العربية الإسلامية.
وبالجملة يعتبر الكتاب إضافة نوعية متميزة تعطي صورة عن التصوف المغربي في ذلك العصر، وقد اقتنعت شخصيا بطبع الكتاب، وجعله واحدا من مطبوعات الزاوية البصيرية للأسباب التالية:
أولا: تأكيد العلاقة القديمة التي ربطت بين آل البصير وآل ماء العينين، هذه العلاقة الأخوية الصادقة التي ربطت بين الشيخ محمد المصطفى ماء العينين ونجله الشيخ أحمد الهيبة وبين الشيخ محمد البصير وأخوه الشيخ ابراهيم البصير أبناء الشيخ مبارك البصير دفين لخصاص – رحم الله الجميع -.
وإن تعارف وتقارب آل البصير بآل الشيخ ماء العينين كان قبل تأسيس مدينة السمارة العتيدة، وهو أمر معروف عند الخاص والعام من أهل الصحراء المغربية، وقد تحدث عن هذه العلاقة الوطيدة العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله في كتابه “المعسول”، وتحدث عنها الشيخ محمد المصطفى بصير رحمه الله في كتابه “النزر اليسير من مناقب زاوية آل البصير في الصحراء وسوس وبني اعياط بالمغرب”، وتحدث عنها العلامة الطالب أخيار بن الشيخ مامين في كتابه “الشيخ ماء العينين، علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار”، وغيرهم كثير، وكلا العائلتين اشتهرتا بالتصوف والصلاح والعلم والشرف، وكلاهما انطلقتا من الصحراء، ثم إلى سوس، ثم إلى داخل المملكة المغربية، وكان همهم الأول هو التدريس والإفتاء والتأليف والجهاد والإصلاح بين القبائل ونفع الناس أينما حلوا وارتحلوا في الصحراء وفي سوس وفي مختلف ربوع الوطن، وكانت لهم لقاءات علمية وروحية مع عدد من العلماء والسلاطين ورجال الدولة وأعيان القبائل، وعلى الجملة استفاد منهم خلق كثير في كل المناطق التي مروا منها علما وتربية وسلوكا.
ولا يفوتني أن أشير إلى أنه عند التمحيص في تاريخ هاتين العشيرتين اللتين اشتهرتا بالعلم والدين والصلاح، نجد الالتحام الوطني والوحدة الترابية للمملكة المغربية بادية للعيان، حيث استطاعت كل منهما تحقيق التواصل الإصلاحي والعلمي والتربوي والسياسي في جميع المناطق التي مروا منها، وذلك من خلال تنقلاتهم المستمرة من الجنوب إلى الشمال، وبزياراتهم العديدة للمدن الداخلية، واتصالاتهم الوثيقة، ومراسلاتهم وتجاوبهم مع ملوك الدولة العلوية الذين عاصروهم.
ثانيا: لأن مؤلف كتاب “نعث البدايات وتوصيف النهايات” هو الشيخ الجليل ماء العينين، وهو أحد كبار علماء ودعاة المغرب، وأوسعهم ذكرا في الصحراء المغربية، وأشملهم تأثيرا في الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية في المغرب أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فضلا عن تصدره لقائمة المنافحين والمدافعين -بقلمه وسيفه- عن المغرب وأرضه وأصالته وحضارته وثقافته العربية الإسلامية، بل يمكن أن نعتبره مدرسة فكرية متميزة، أخذت على عاتقها حمل مشعل العلم والثقافة، ولواء الجهاد والعمل في شتى الميادين وراء سلاطين الدولة المغربية الشرفاء.
ثالثا: اندراج هذا الكتاب ضمن التراث الصوفي الذي تهتم به زاويتنا وطريقتنا من جهة، ومن جهة ثانية، كونه عملا أكاديميا متميزا يعطيه الأسبقية عن الطبعات السابقة ، فضلا عن محتواه العلمي الذي لفت انتباه المهتمين من أهل المشرق والمغرب، فعكفوا على خدمته، سواء بتنقيحه وتصحيحه، أو بتحقيقه ودراسته، وهو أمر لا ينم حقيقة إلا عن نفاسة الكتاب وأهميته.
رابعا: تأكيد ما يتصل بمسألة تآخي الطرق الصوفية، التي نظَّر لها الشيخ ماء العينين في كتابه: “إني مخاوي لجميع الطرق”، وطبقها في حياته، حيث ثبت تلقينه للكثير من أوراد الطرق الصوفية التي كان متبحرا فيها، ولم يكن متعصبا لطريقته المعينية ولا لطريقة بعينها، وكل مناه الوصول إلى توحيد جماعة المسلمين في كل مكان، وتوحيد الطرق الصوفية وتحقيق التآخي بين أتباعها، وهو ينهج في ذلك منهج العلماء، وكان يرى بأن الطرق الصوفية وإن تعددت إنما هي في الأصل طريقة واحدة، وهي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النهج نفسه الذي تعتمده الطريقة البصيرية، إذ بالرغم من كونها درقاوية المشرب، نجد الزاوية ترحب في مختلف مناسباتها بكافة مريدي الطرق الصوفية المعروفة بالمغرب كالتيجانية والكتانية والبوتشيشية والبوعزاوية والناصرية وغيرها، كما يزورها مريدو الطرق الصوفية المعروفة بالمشرق كالنقشبندية والشاذلية والمريدية وغيرها، ونجدها تحضر مجالسهم المختلفة دون قيد أو شرط، ومقصودها هو جمع شمل عباد الله على محبة الله وعبادة الله، وكم وكم ترنم منشدو الطريقة البصيرية في الكثير من مجالسهم بأبيات للشيخ علي التادلي يقول فيها:
لاتقل شيخي أفضل أو تجاوب من يفضل
قل بحال هو أعدل كلهم دلوا على الله
لا تفرق في الطريقة واجمعن فالفرق علة
يا مريدا للحقيقة خيرنا من يتق الله
خامسا: الرغبة في أن يعود أهل التصوف في أيامنا هذه إلى أصول التربية الصوفية السنية التي تربى عليها الأوائل من سلفنا الصالح، لأننا عندما نمعن النظر في حال أهل التصوف اليوم نجد الكثرة الكاثرة ابتعدت عن المنهج الشرعي السني لأهل التصوف، فظهر بينهم المحترفون الذين اتخذوا زواياهم وطرقهم حرفة يسترزقون بها ويجمعون بها الأموال وحطام الدنيا، وظهر بينهم المدعون الذين يعدمون سندهم الصوفي، وليس لهم نصيب من العلم والعمل ويدعون مقامات الرجال، علاوة على القيم والأخلاق المثالية التي خفت شعاعها، كما ظهر أرباب الزوايا الطامعين فيما عند الناس، وزواياهم لا تكاد تقوم بأي دور من الأدوار التالدة المعروفة التي كانت تقوم بها الزوايا، كالتعليم والتربية وإيواء المحتاجين وإطعام الطعام بالمجان وغيرها، وظهر بينهم أيضا من جعلوا زواياهم بيوتا يكترونها لكل زائر، ووضعوا صناديق بجنب قبور أوليائها وصالحيها طمعا في دريهمات الزائرين، مما فتح المجال أمام الترهات وسفاسف الأمور، وضروب شتى من الخرافات التي لا أصل لها من كتاب وسنة صحيحة، فجاء هذا المؤلف وأمثاله ليأخذ بأيدي المسلمين إلى سبل الخير والمعرفة الحقيقية، ويجلي لهم أمور دينهم، ويكشف لهم عن جوهره الأصيل، ومعدنه الثمين.
وإن إعادة طبع كتاب “نعت البدايات وتوصيف النهايات” في حلته الجديدة ومعاودة قراءته ودراسته بين أهل التصوف اليوم، وقراءة غيره من كتب القوم الشهيرة، كفيل بأن يعود بهم إلى أصول التربية الصوفية السنية الصحيحة، التي تربى عليها الأوائل من سلفنا الصالح، لأن المواضيع التي اهتم بها الكتاب تتصل بشكل محوري بتربية المريد الصوفي من أول وهلة إلى أن يستقيم على طاعة ربه، وكل ما يصلح له إلى الممات، حيث نجده تكلم عن آداب المريد مع شيخه وما يصلح له معه إلى تمام رسخه، وآدابه مع عبادة ربه، وآدابه مع إخوانه وأعوانه، والأقوال والأفعال التي ينتفع بها، وآداب المربي مع ربه وآدابه مع تلامذته، وآدابه مع غيرهم من الخلق، وغيرها من الفوائد وأصول التربية الصوفية الحقة التي أصبحت عزيزة في أيامنا هذه.
ويزيد في الترغيب في قراءة الكتاب، ما عرف به الشيخ ماء العينين من تبحر في علوم الشريعة وعلو كعبه فيها، حيث بلغت مؤلفاته نظما ونثرا أزيد من أربعمائة وخمسين مؤلفا طبع معظمها، وفي هذا الكتاب بالظبط أصل للكثير من أعمال أهل التصوف وربطها بدليلها من الكتاب والسنة، وكيف لا وقد اشتهر هذا العصر بازدهار علمي الفقه والتصوف.
لكل ذلك، فإننا نتشرف في الطريقة البصيرية أن نحوز قصب السبق في طباعة هذا العمل المتميز أصلا وتحقيقا، وسيكون بحول الله تعالى هذا ديدننا في طباعة كافة الأعمال الرصينة التي تعنى بمجال التصوف ورجاله، خاصة أننا في القريب العاجل سنفتتح مركزا للدراسات الصوفية، الذي سيضم نخبة من العلماء والباحثين والأكاديميين، الذين سيتولون إخراج دراسات جادة في الموضوع.
ختاما أسأل الله تبارك وتعالى أن يجازي خيرا فضيلة الأستاذ العالم سيدي عبد الهادي السبيوي على هذا العمل الكبير، وأن يجعله له من الأعمال الخالدة التي ينتفع بها، كما نسأله عز وجل أن ينفع به كل مطالع، اللهم يارب لاتعدمنا توفيقك وسدادك وكلاءتك على الدوام، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، واحفظ وانصر بفضلك رائد العلم وراعي العلماء، وحامي حمى عقيدة أهل السنة والجماعة سيدنا الإمام، أمير المؤمنين جلالة الملك مولانا محمد السادس حفظه الله تعالى، وأقر عينه بولي عهده الجليل مولاي الحسن وسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة، آمين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه إسماعيل بصير
خادم أهل الله بزاوية جده الشيخ سيدي ابراهيم البصير، بني اعياط أزيلال
الزاوية البصيرية في يوم الجمعة فاتح شعبان 1435هـ، الموافق لـ 30 ماي 2014م
{jathumbnail off}