ظاهرة التشرميل وأهمية الأمن
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك،
اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم في معرض الامتنان على عباده بنعمة الأمن: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف)”، وقال عز وجل في آية أخرى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِيسَ الْمِهَادُ)، وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: “حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا”، ورُوِيَ عن عامر بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تُرَوِّعُوا المسلم، فإن رَوْعَة المسلم ظلم عظيم”.
أيها الإخوة الكرام، إن موضوعنا اليوم يدور حول ظاهرة اجتماعية قديمة جديدة، قديمة في أصلها وتسميتها، جديدة في وسائلها وأساليبها وتسميتها، ففي سالف الأزمان كانت تسمى بالحرابة وقطع الطريق، واليوم اصطلح عليها الشباب المنحرف – هداهم الله- في قاموسهم الخاص بالتشرميلة، هذه الظاهرة الغريبة التي ظهرت في الكثير من مدننا وشوارعنا وأسواقنا وباتت تشغل كل مواطن ومواطنة، كما شغلت بال رجال الأمن الأشاوس الأبطال، احترفها بعض من شباب مجتمعنا يتحدى الدين والأخلاق والنظام والقانون.
شباب غريب له هيئة خاصة وقصة غريبة في حلاقة الرأس، يحملون سكاكين عبارة عن سيوف كبيرة وشواقر حادة، هم في الأول والآخر أبناؤنا وإخواننا وإن بغوا علينا، استهوتهم وأغرتهم الظاهرة وصورت لهم الرجولة بمفهومها السلبي، اشتغلوا بترويج المخدرات بكل أصنافها ونشر أقراص الهلوسة، يتحملون وزرا كبيرا في زرع نوع من عدم الأمن وعدم الاستقرار داخل المجتمع، يرتكبون ما يرتكبون بدون تخف أو تستر، يقترفون أعمالهم الإجرامية علانية عبر استعمال مكبرات الصوت وبكل وسائل المجاهرة بالذنب المتاحة، وعبر استعمال الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، في نوع من عدم الحشمة وكامل الشجاعة والثقة في النفس، وعبر التمادي والزهو بما تقترفه الأيادي من إجرام، وإبراز الغنائم المتحصلة من الضحايا، وهذا كله تحول خطير ينم عن حجم الفراغ الروحي والتربوي لجزء من شبابنا الذي تنكر للقيم الأخلاقية المعروفة بالمجتمع المغربي الذي عاش وتربى في كنفه، وتشبع بقيم أخرى غريبة، بحيث بات يتمثل العديد من الأفكار والأشخاص والطقوس المنبعثة من وحي الخيال ومن عوالم الأفلام الهوليودية والألعاب الإلكترونية التي تزخر بمثل هذه الأفعال، رغبة منهم في التعبير على حضور الذات والجسد والتأكيد على رجولة فقدت مقوماتها، لأن الرجولة الحقيقية هي التي يتوفر فيها ركني القوة والأمانة لا القوة والخيانة والغدر وقطع الطريق، فمن جمع في سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة، كان أهلا لكل خير، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم، لكن يا أسفا على شبابنا الذين أخذتهم العزة بالإثم فأضحوا يستعرضون عضلاتهم على مرأى ومسمع من الجميع ويتبجحون بسلب إخوانهم وأخواتهم بعض ممتلكاتهم بل الأدهى والأمر أنهم حالوا بينهم وبين عبادتهم وطلب معاشهم.
أيها الإخوة الكرام، إن تاجُ أعالي الرؤوس ومطلَب كبار النفوس كما تعلمون يتجلى في أمرٍ عظيم يرومُه الأفراد والمجتمعات، وتتطلّع إليه الدوَل والحكومات، وتُبنى على قواعدِه الأمجادُ وتُشاد الحضارات، ذلكم هو مطلبُ الأمن، فإنه لا يختلِف اثنان أنّ هاتِفَ الأمنِ والأَمان وهاجِسَ الاستقرار والاطمِئنان هو المرامُ النبيل الذي تنشده المجتمعات البشريّة وتتسابَق إلى تحقيقِه السّلطاتُ العالمية بكلّ إمكاناتها المادّية والفكرية؛ إذ هو قِوام الحياة الإنسانيّة وأساسُ أمجادها المدنيّة والحضارية، فلا تتم التنمية والبناءِ والتفرُّغ للإعمار والإبداع والنّماء وتحقيق المزيد من المكتسبات وأفضل الإنجازات دون أمن، فالأمنُ ضدُّ الخوف، وهو يعني الحفاظَ على البلاد والعبادِ في أمور المعاشِ والمعاد، وذلك بحفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأعراضِهم وأموالهم، والله سبحانه حَرَّم ترويع المسلم وإخافتَه، سواء كان هذا الترويع بالقول أو بالفعل، وسواء كان على سبيل الجد أو اللعب، فاعله يستحق اللعن والوعيد الشديد، وذلك لعِظَم جُرْمه وظُلْمه، (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون).
وأتوجه إلى شبابنا المسلم المؤمن بعدَم الاغترار بهذه المسالك والحرص على الأخذ من العلماء الربانيّين واحترام نصائح وتوجيهات الوالدين والمربين في هذا الجانب، وسيكون لكم شأن وأي شأن، لأن المسؤولية في استفحال الظاهرة تقع على الجميع آباء وأمهات وعلماء وأساتذة ومربون ورجال الأمن، ومتى تظافرت جهودنا جميعا حصلنا أحسن النتائج، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، ورُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَن أخافَ مؤمنًا كان حقًّا على الله أن لا يُؤَمِّنَه من أفزاع يوم القيامة”.
أيها الإخوة الكرام، ذكرنا في الخطبة الأولى أن ظاهرة التشرميل هي امتداد لظاهرة الحرابة ولكن في ثوب جديد، والحرابة قال فيها الحق سبحانه وتعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، والذي عليه الجمهور أن سبب نزول هذه الآية: أن العرنيين قدموا المدينة فأسلموا، واستوخموها، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم بلقاح ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا”.
والملخص المفيد من هذه القصة: أن كل من يهدد أمن المسلمين ويعتدي عليهم يكون محارباً لله ولرسوله ومستحقاً لغضبه سبحانه وعقوبته، قال الإمام مالك في من يستحق اسم المحاربة: “المحارب عندنا هو من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة أي عداوة ولا ثأر”، وهل تعرفون بما عاقبت الشريعة الإسلامية أمثال هؤلاء؟ قال الإمام مالك: “العقوبة توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل”، لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولاً منع وقوع الجريمة، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام، ويفزعون الجماعة المسلمة.
والمنهج الرباني أيها الإخوة الكرام لا يأخذ الناس بالقانون وحده، إنما يرفع سيف القانون ويسلطه ليرتدع من لا يردعه إلاّ السيف، فكما أوثر عن سيدنا عمر وسيدنا عثمان رضي الله عنهما قوله: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، بمعنى يكف لأن بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، ونهي القرآن، بل يقدم على المعاصي والآثام ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان، ارتدع، وخاف من العقوبة السلطانية، لهذا كله وحتى تتحقق النتائج المرجوة وجب على المواطنين والمواطنات التعاون مع رجال الأمن للحد من كافة الظواهر الإجرامية والحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين من اعتداءات محتملة، فلم يعُد يُجدِي الصمتُ ولا التغاضي، فلا بدّ من الحزم في اجتثاث جذور الظاهرة والقضاء على فيروسها وجرثومتها القاتلة. والحمد لله رب العالمين.