إصلاح ذات البين -4-
الحمد لله، الحمد لله الذي أمر بإصلاح ذات البين، ونهى عن إفساد أخوة المسلمين المجتمعين، فقال وهو أصدق القائلين: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما،
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا يبينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون”،
نحمده سبحانه وتعالى حمد الشاكرين، ونسأله التوفيق والسداد في كل حين، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، القائل في محكم كتابه المبين: “لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نوتيه أجرا عظيما”،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم كان يحث على الإصلاح بين المتخاصمين، القائل: “من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد” صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمع الماضية تكلمنا عن إصلاح ذات البين وذكرنا، أهميته في حياة المسلمين، وبيننا فضل السعي فيه حفاظا على لحمة المسلمين، وخصصنا الذكر على الإصلاح بين الزوجين، حفاظا على الأسرة وسلامة المجتمع، وتوفيرا لحياة آمنة للأولاد واستقرار للأسرة، وتأصيلا للعلاقة العائلية والجو الأسري بوجه عام، كما ذكرنا بالآداب والأخلاق التي ينبغي للمصلح بين المتخاصمين أن يفقهها ويتحلى بها ليكون من الموفقين لتحقيق النتائج المرجوة من هذه العبادة العظيمة التي يرجى ثوابها وثواب السعي فيها يوم العرض على رب العالمين، نجملها في استحضار النية الصالحة وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية ولزوم العدل والتقوى في الصلح، والتحلي بالعقل والحكمة والإنصاف بغية إيصال الحق لذويه، وسلوك مسلك السر والنجوى، مع الحذر من فشو الأحاديث وتسرب الأسرار واختيار الوقت المناسب للصلح بين المتخاصمين، وأن من فقه المصلح أن يكون الصلح مبنيا على علم شرعي، وأن يتلطف في العبارة واختيار أحسن الكلم في الصلح ويلتزم الرفق في الصلح وترك المعاتبة إبقاء للمودة، مبتدئا عمله بالجلسات الفردية بين المتخاصمين لتليين قلبيهما إلى قبول الصلح والاستعانة بالدعاء مع الإخلاص والبراءة إلى الله سبحانه من كل حول وقوة،
واليوم أيها الإخوة المؤمنون، تتمة لهذا الموضوع نقول وبالله التوفيق، إن الإصلاح بين المتخاصمين مهمة جليلة قد فرط فيها كثير من الناس مع قدرتهم عليها، وكثير من الخصومات تكون أسبابها تافهة، وإزالتها يسيرة، وقد توجد رغبة الصلح عند كلا الخصمين، ولكن تمنعهما الأنفة والعزة من التنازل مباشرة، أو المبادرة إلى الصلح بلا وسيط، فإذا ما جاء الوسيط سهل الإصلاح بينهما لرغبة كل واحد منهما في ذلك، فينال المصلح أجرا عظيما على عمل قليل، ويؤلف بين قلبين متنافرين. وما من أسرة أو قبيلة بين بعض رجالها خلاف وقطيعة إلا وفيها رجال عقلاء يستطيعون السعي في إزالة الخلاف والقطيعة، ولكن التقصير والغفلة تحول دون ذلك، وما من حي أو إدارة حكومية أو شركة أو مؤسسة بين بعض أفرادها خصومة إلا وفيها من الرجال الأكفاء من هو قادر على الإصلاح بين المتخاصمين، لا سيما أصحاب المناصب والجاه والغنى، ولكنهم يقصرون في ذلك من باب ترك الفضول وعدم التدخل فيما لا يعني حسب ظنهم، وقد صلحت لهم دنياهم فما عليهم لو اختصم الناس، ونزغ الشيطان بين غيرهم، وهذه أنانية مفرطة، وأثرة بغيضة، وحرمان من خير عظيم.
أيها المومنون، من سعى لإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال، فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام. وتذكر أخي قول حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم “ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلقِ حسن”، فاللهم أصلح ذات بيننا، واهدنا إلى إصلاح أنفسنا، واجمعنا على الخير ما أحييتنا، فإنك على كل شيء قدير، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إن من مستحسن الرأي وسداد البصيرة الجِدَّ في إنشاء ورعاية مراكز إصلاح ذات البين في مجتمعنا وأحيائنا ومدننا وقرانا وفي إداراتنا الخاصة والحكومية وبين الأسر لجمع شمل أمتنا، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم –أي أسيرهم- بالمعروف والإصلاح بين المسلمين”، ولا شك أن الصلح خير من الشقاق، والصلة أفضل من القطيعة، والمودة أولى من الكراهية، ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليكن خير الخصمين، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
إن المكارم كلها لو حصلت ** رجعت جملتها إلى شيئين
تعظيم أمر الله جل جلاله ** والسعي في إصلاح ذات البين
فحاول أخي المؤمن أن تكون من السباقين إلى إصلاح ذات البين لتنال ما عند الله من ثواب عظيم وتفوز بخير الدنيا والدين،
الدعاء…