الظلم.. ظلمات يوم القيامة
الحمد الله، الحمد لله الذي ملأت عظمته القلوب والأسرار، واحتجب في سرادقات عزه عن أن تدركه الأبصار، أحاط بكل شيء علما فلا يخفى عليه جهر ولا إسرار،
حد لعباده حدودا وقال لهم على لسان نبيه لا ضرر ولا ضرار، وحرم الظلم على نفسه وجعله محرما على خلقه على مر الأعصار، نحمده على نعمه الغزار،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو الواحد القهار، شهادة تنفعنا يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أشرقت بنوره الأنوار.
قال تعالى في كتابه المكنون: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون).
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا” أخرجه مسلم قال سعيد بن عبدالعزيز: “كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه”.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)”.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن مرتع الظلم وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه النار، وهو سبب خراب الدار، ولو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما وما حرم الله شيئا كالظلم ولا توعد أحدا بمثل ما توعد به أهله قال تعالى: (إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجود بيس الشراب وساءت مرتفقا)، ولشناعته وعظيم جرمه حرمه على نفسه قبل أن يحرمه على عباده فقال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي” يعني أنه منع نفسه من الظلم لعباده كما قال عز وجل: (وما أنا بظلام للعبيد)، وقال: (وما الله يريد ظلما للعالمين) وقال: (وما ربك بظلام للعبيد) وقال: (إن الله لا يظلم الناس شيئا) وقال: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) وقال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)، والهضم أن ينقص من جزاء حسناته والظلم أن يعاقَب بذنوب غيره ومثل هذا كثير في القرآن وهو يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده، فهو مستحيل عليه وغيره متصور في حقه ولو أنه خلق أفعال العباد وفيها الظلم فلا يقتضي ذلك وصفه بالظلم سبحانه وتعالى كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد وهي خلقه وتقديره لأنه لا يوصف إلا بأفعاله ولا يوصف بأفعال عباده، ولو أن الله تعالى عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، وبعد ذلك حرمه على عباده فخاطبهم بذلك فقال: “وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا” يعني أنه تعالى حرم الظلم على عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا وهو نوعان:
أحدهما ظلم النفس وأعظمه الشرك كما قال تعالى على لسان لقمان الحكيم وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف; ولهذا أوصاه بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا فقال (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)، لأن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فعبده وتألهه فهو وضع الأشياء في غير مواضعها وأكثر ما ذكر في القرآن وعيد للظالمين إنما أريد به المشركون كما قال الله عز وجل: (والكافرون هم الظالمون)، ثم أخبر تعالى أنه: (لا يغفر أن يشرك به) أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به (ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء) من عباده، لذلك كانت عقوبة المشرك أقسى العقوبات وأشدها، ألا وهي الخلود الأبدي في النار، قال تعالى في بيان ذلك: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
والشرك المقصود هنا هو الشرك الأكبر المخرج من الملة، وهو على أنواع:
1- شرك في الربوبية: وهو اعتقاد أن ثمة متصرف في الكون بالخلق والتدبير مع الله سبحانه، وهذا الشرك ادعاه فرعون لنفسه: (فقال أنا ربكم الأعلى) فأغرقه سبحانه إمعاناً في إبطال دعواه، إذ كيف يغرق الرب في ملكه الذي يسيره؟!
2- شرك في الألوهية: وهو صرف العبادة أو نوع من أنواعها لغير الله، كمن يتقرب بعبادته للأصنام والأوثان والقبور ونحوها، بدعوى أنها تقرِّب من الله، فكل هذا من صور الشرك في الألوهية، والله لم يجعل بينه وبين عباده في عبادته واسطة من خلقه، بل الواجب على العباد أن يتقربوا إليه وحده من غير واسطة فهو المستحق لجميع أنواع العبادة، من الخوف والرجاء والحب والصلاة والزكاة وغيرها من العبادات القلبية والبدنية، قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
3- شرك في الأسماء والصفات: وهو اعتقاد أن ثمة مخلوق متصف بصفات الله عز وجل كاتصاف الله بها، كمن يعتقد أن بشراً يعلم من الغيب مثل علم الله عز وجلَّ، أو أن أحدا من الخلق أوتي من القدرة بحيث لا يستعصي عليه شيء، فأمره بين الكاف والنون، فكل هذا من الشرك بالله، وكل من يدعي ذلك فهو كاذب دجَّال .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الأنواع في جملة واحدة من جوامع الكلم حين سئل عن الشرك بالله فقال: “أن تجعل لله ندا وهو خلقك” متفق عليه، والند هو المثيل والنظير فكل من أشرك بالله سواء في الربوبية أو الألوهية أو الأسماء والصفات فقد جعل له نداً ومثيلاً ونظيراً.
هذه هي أنواع الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر، فهو وإن لم يكن مخرجا من الملة إلا أن صاحبه قد أرتكب ذنباً عظيماً، وإذا لقي العبد ربه به من غير توبة منه في حال الحياة، كان تحت المشيئة إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، ومن أمثلة الشرك الأصغر الحلف بغير الله من غير أن يعتقد الحالف أن منزلة المحلوف به كمنزلة الله عز وجل في الإجلال والتعظيم، فإن من اعتقد ذلك كان حلفه كفرا أكبر مخرجا من الملة، ومن أمثلته أيضاً قول القائل: ما شاء الله وشئت، فقد جاء يهودي إلى النبي صلى الله فقال: “إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون: ما شاء الله ثم شئت” رواه النسائي .
ومن أنواع الشرك الأصغر الرياء، وهو أن يقصد العبد بعبادته عَرَضَ الدنيا، من تحصيل جاه أو نيل منزلة، قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)، وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ يا رسول الله، قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة: إذا جُزِيَ الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء”.
هذا هو الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر، والواجب على المسلم أن يكون على علم بتوحيد الله وما يقرِّب إليه، فإن من أعظم أسباب انتشار الشرك بين المسلمين الجهل بما يجب لله من التوحيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على بيان التوحيد الخالص، وحريصاً على بيان الشرك وقطع أسبابه، إلا أن البعد عن منبع الهدى من الكتاب والسنة أدخل طوائف من الأمة في دوامات من الممارسات الخاطئة لشعائرٍ كان من الواجب صرفها لله، فصرفت إلى مخلوقين لا يستحقونها.
ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني ظلم العبد لغيره وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”، وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من يوم عرفة وفي اليوم الثاني من أيام التشريق، وفي رواية ثم قال: “اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه”، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الظلم ظلمات يوم القيامة”، وفيهما عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)، هود”، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه”.