التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم: حبه لزوجاته
الحمد لله، الحمد لله الذي أنعم على عباده بالتوفيق، فأرشدهم إلى أقوم سبيل وأحسن طريق، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وجعل بين الطرفين مودة ورحمة،
نحمده تعالى حمدا لا ينتهي أمده، ونشكره شكرا لا يحصى عدده،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، كان يستوصي بالنساء خيرا، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والنهى والمجد والتقى، وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال الجمع الماضية أخلاقة وشمائله، واليوم نجول معه صلى الله عليه وسلم في جانب مهم من حياته وهو ما يتعلق بمعاملته صلى الله عليه وسلم لزوجاته أمهات المؤمنين، وذلك بغية التأسي به والسير على نهجه، خاصة وأننا اليوم في زماننا هذا حكمنا عادات وتقاليد في المعاملة والمعاشرة الزوجية، وقلدنا الأمم الغربية التي حملت شعار الرومانسية وجعلت للحب عيدا يحتفلون به في كل عام مرة، ونسينا البحث في سنة نبينا سيد الخلق حبيب الحق للاهتداء بها والسير على منوالها وجعلها نموذجا في تعاملنا مع زوجاتنا، فنقول وبالله التوفيق:
إن معاملة رسولنا صلى الله عليه وسلم لنسائه رضي الله عنهن كانت معاملة خاصة، عبر من خلالها صلى الله عليه وسلم على سمو المحبة والمودة التي أصبحنا نطلق عليها بمصطلحنا اليوم كلمة الرومانسية، لم يتعلمها سيدنا رسول الله من الأفلام والمسلسلات الإباحية، ولا في الجامعات والمدارس المتقدمة الرائدة، وإنما كانت تعبيرا صادقا عن حب كمن في قلبه تجاه زوجاته، وكان يوصي به أتباعه من الصحابة حيث قال صلى الله عليه وسلم: ” أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم”، فتعالوا بنا نقرأ صورا من هذا التعامل،
كانت عائشة رضي الله عنها تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض يأخذ الإناء الذي فيه الطعام، ويقسم عليّ أن آكل منه، ثم يأخذ الإناء، ويتحرى موضع فمي ويضع فمه على موضع فمي من الإناء. إنها قمة المجاملة بل مؤانسة وإظهار للمودة رحمة بهذه الزوجة، وكان يفعل هذا، وتقسم عائشة رضي الله عنها أنه كان يفعل ذلك في إناء الماء، فكانت تشرب عائشة ويأخذ صلى الله عليه وسلم الإناء ويتحرى موضع فمها فيشرب؛ كل ذلك ليعلم أمته كيف تكون العلاقة بين الزوجين، وكيف تدوم المودة والرحمة، كيف تحتاج المرأة لملاطفة الرجل، ولملاعبة لها، وإلى حسن كلامه معها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”، ويقول أيضا: “استوصوا بالنساء خيرا”، وبيت النبوة هو كذلك كجميع بيوت الناس، يحصل فيه ما يحصل للناس جميعا من سوء التفاهم ومن الخلافات، فانظروا إخواني كيف كان صلى الله عليه وسلم يعالج مشاكل البيت مع أزواجه،
مرة غضب صلى الله عليه وسلم مع عائشة فقال لها: هل ترضين أن يحكم بيننا أبو عبيدة بن الجراح ؟ فقالت: لا، هذا رجل لن يحكم عليك لي ، قال: هل ترضين بعمر؟ قالت: لا، أنا أخاف من عمر ، قال: هل ترضين بأبي بكر؟ قالت: نعم. فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما، ودهش أبو بكر وقال: أنا يا رسول الله؟ ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي أصل الخلاف، فقاطعته عائشة رضي الله عنها قائلة رضي الله عنها: اقصد يا رسول الله، أي قل الحق، فضربها أبو بكر على وجهها فنزل الدم من أنفها، وقال: فمن يقصد إذا لم يقصد رسول الله؟، فولت عائشة هاربة منه واحتمت بظهر النبي صلى الله عليه وسلم فاستاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ما هذا أردنا، وقام فغسل لها الدم من وجهها وثوبها بيده.
فلما خرج قامت عائشة رضي الله عنها فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: ادني مني؛ فأبت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كنت من قبل شديدة اللزوق بظهري (إيماءةإلى احتمائها بظهره خوفًا من ضرب أبيها لها)، ولما عاد أبو بكر رضي الله عنه ووجدهما يضحكان قال: أشركاني في سلامكما،كما أشركتماني في حربكما”.
فأي محبة هذه؟ وأي أخلاق هذه نفض بها نزاعاتنا، وندخل بها السلم إلى بيوتاتنا؟،
دخل الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم على زوجته أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها فوجدها تبكي، فقال لها ما يبكيك؟ قالت: حفصة تقول: إني ابنة يهودي، فقال صلى الله عليه وسلم: قولي لها “زوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى”،
وهكذا أيها المؤمنون نرى كيف يحل الخلاف بكلمات بسيطة وأسلوب طيب. حتى عندما يشتد الغضب يكون الهجر في أدب النبوة أسلوباً للعلاج، فقد هجر الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته يوم أن ضيقن عليه في طلب النفقة، وفي صحيح مسلم تروي لنا أمنا عائشة رضي الله عنها طرفاً من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: ما ضرب رسول الله شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله”،
بل إن أخلاق المودة والرحمة رافقت حياة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى في حالة عزمه على طلاق نسائه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خشِيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية: “وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ”، وفي رواية أخرى أنه قد بعث إليها صلى الله عليه وسلم فأذهلها النبأ ومدت يدها مستنجدة فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: والله ما بي على الأزواج من حرص، ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجة لك، وقالت له: ابقني يا رسول الله، وأهب ليلتي لعائشة، فتأثر صلى الله عليه وسلم لموقف سودة العظيم ورق لها وقرر أن يمسكها ويبقيها ضمن أزواجه صلى الله عليه وسلم ويعطينا بهذا العمل وهذه الرحمة درساً آخرَ في المروءة صلى الله عليه وسلم.
فاللهم اجعلنا من المتمسكين بسنته المقتفين أثره، المهتدين بهديه، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين.
الخطبة الثانية
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هديه صلى الله عليه وسلم مع زوجاته رضي الله عنهن، “وكانت سيرته مع أزواجه: حسن المعاشرة، وحسن الخلق. وكان يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. وكانت إذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه. وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه موضع فمها وشرب وكان إذا تعرقت عرقا -وهو العظم الذي عليه لحم- أخذه فوضع فمه موضع فمها”. “وكان يتكئ في حجرها، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها. وربما كانت حائضا. وكان يأمرها وهي حائض فتتزر ثم يباشرها، وكان يقبلها وهو صائم”.،
“وكان صلى الله عليه وسلم من لطفه وحسن خلقه أنه يمكنها من اللعب ويريها الحبشة، وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على منكبيه تنظر ، وسابقها في السير على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة”.،
“وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل انقلب إلى صاحبة النوبة خصها بالليل.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندهن في القسم، وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو في نوبتها، فيبيت عندها”.
أيها المؤمنون، إذا تأملنا ما نقلناه هنا من هدية صلى الله عليه وسلم في معاملة نسائه، نجد أنه كان يهتم بهن جميعا، ويسأل عنهن جميعا، ويدنو منهن جميعا. ولكنه كان يخص عائشة بشيء زائد من الاهتمام، ولم يكن ذلك عبثا، ولا محاباة، بل رعاية لبكارتها، وحداثة سنها، فقد تزوجها بكرا صغيرة لم تعرف رجلا غيره عليه السلام، وحاجة مثل هذه الفتاة ومطالبها من الرجل أكبر حتما من حاجة المرأة الثيب الكبيرة المجربة منه، والحاجة هنا ليست مجرد النفقة أو الكسوة أو حتى المعاشرة الزوجية ، بل حاجة النفس والمشاعر أهم وأعمق من ذلك كله.
فأيننا نحن من هذا كله، فوالله لو عاملنا أزواجنا بمثل هذه المعاملة لعشنا سعادة وطمأنينة، ولتحولت حياتنا من عنف وقلق إلى سرور ورغد، وتدبروا معي إخواني وأخواتي، قول رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما كان بفيق من إغمائه في مرض موته صلى الله عليه وسلم، ويقول: “الصلاة وما ملكت أيمانكم”.
الدعاء…