كيف نزيل الشك في أمر الرزق؟ وأقسام وأنواع الرزق

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،

وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، روى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول: من جعل الهموم هماً واحداً، هم آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك.  
أيها الإخوة الكرام، تتمة لما بدأناه في الخطبة الماضية، حيث تكلمنا عن خوف العباد من الفقر مع ضمان الله للأرزاق، سنتطرق في خطبة هذا اليوم بحول الله للشكوك التي يثيرها هذا الموضوع في نفوس بعض الناس ويحرمهم بالتالي من لذة العبادة والأنس بالله، متطرقا إلى أنواع الرزق وأقسامه.
إن المؤمن إذا أيْقن أنّ رزقه بيد الله وحده وأنّ أحدًا لا يستطيع أن يزيده ولا أن ينقصهُ، إذا آمن الإنسان هذا الإيمان المبني على التأمّل والتدبّر في آيات القرآن، انقطَعت علائقه مع بني البشر، وارتبط مع خالق البشر، قطع أملهُ من الناس وارتبط بربّ الناس، آيات عديدة وأحاديث كثيرة وآثار حكيمة تتكلم عن موضوع الرزق، فالآيات قد تقترب من مائة آية، كلّها تتحدّث عن الرّزق، فإذا تأمّلنا وإذا تدبّرنا وإذا صدَّقنا ربّنا عز وجل، كانت حياتنا حياةً أخرى ليس فيها تحاسُد ولا تباغض ولا عُدوان ولا طغيان ولا تعدي، الحياة التي يعيشها الناس من دون قِيَم ومن دون إيمان هي حياة الذئاب، كلٌّ يتمنَّى أن يأخذ ما عند أخيه ظلمًا وبهتانًا، أما إذا آمنتَ أنّ أجلك بيَدِ الله وحده، وأنّ رزقك بيَدِ الله وحده، وقد أمرك أن تسعى فسَعَيْت فهذا شأن المؤمن الصادق.
أيها الإخوة الكرام هناك آيات كثيرة غسلت الأمراض والشكوك من قلوب عباد الله، حتى حصل لهم اليقين الكبير فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم، والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة، وأقوال السلف كذلك، وسأكتفي بذكر أمثلة  مختصرة جامعة مانعة، روى الإمام الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ، وقال الرباني الشهير المحاسبي قلت لشيخنا: من أين وقع الاضطراب في القلوب وقد جاء الضمان من الله عز وجل؟ قال: من وجهين من قلة المعرفة، وقلة حسن الظن، ثم قال : قلت: شيء غيره ؟ قال : نعم، إن الله عز وجل وعد الأرزاق وضمنها، وغيب الأوقات ليختبر أهل العقول، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين صابرين متوكلين، لكن الله عز وجل أعلمهم أنه رازقهم وحلف لهم، وغيب عنهم أوقات العطاء، فمن هنا عرف الخاص من العام وتفاوت العباد فمنهم ساكن، ومنهم متحرك، ومنهم ساخط، ومنهم جازع، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين”، ودخل جماعة على الإمام الجنيد فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه منه، قالوا فنسأل الله ذلك؟ فقال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا ندخل البيت فنتوكل، فقال: التجربة شك في أنه تعالى ضامن للرزق، ثم قالوا له ما الحيلة؟ قال الحيلة في ترك الحيلة والاعتماد بالقلوب على الله والاشتغال بما أمر به”.
أيها الإخوة الكرام، وبخصوص أقسام الرزق وأنواعه أقول: إن أوَّلُ وهْمٍ يتوهَّمه الناس في موضوع الرّزق أنَّ الرّزق هو المال، وهذا وهْم معيب، أوَّلاً، فالمال أحد أنواع الرّزق، ولكنّ الصّحة رزق، والعلم رزق، وطاعة الله رزق، والحكمة رزق، والزوجة الصالحة رزق، والزوجة العفيفة رزق، والأولاد رزق، والمأوى رزق، والسمعة العطرة رزق، فالمال أحد أنواع الرّزق، وهذه هي الحقيقة الأولى، المال ليس هو الرّزق، ولكنّه بعض الرّزق، والحقيقة الثانية؛ أنّ الرّزق هو ما انتفعْتَ به من مال، أو من طعام، أو من شرابٍ أو من مأوى، أو من علمٍ أو من مهارةٍ أو من خبرة أو من صنعة أو من حرفةٍ أو من صحة أو من حواسّك؛ هذه كلّها أرزاق، ولكنّ الذي لمْ تنتفِعْ به ليس رزقًا، إنّه كسْبٌ، وهذا فرْقٌ دقيق بين الرِّزق وبين الكسْب، فالرِّزق إذن هو ما أكلْت فأفْنيْتَ أو لبِسْتَ فأبْليْت أو تصدَّقْت فأبْقَيْت، وأما ما فاض عن أكلك وعن لبْسِكَ، وعن أعمالك الصالحة فليس لك، اكْتسبْتَهُ بِجُهدك ومحاسبٌ من قِبَل المولى جلّ وعلا كيف اكْتسبْتهُ؟
وقد يتساءل بعض الإخوة والأخوات كيف أنَّ الرّزق كلّ ما انتفعْتَ به حلالاً كان أم حرامًا، طيِّبًا أو خبيثًا، مَشْروعًا أو غير مشروع؟ أقول في الجواب: قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ”، ومِنْ في هذه الآية للتبْعيض، يعني أن الرّزق قد يكون حرامًا، وقد يكون حلالاً، قد يكون طيِّبًا، وقد يكون خبيثًا، قد يكون مَشْروعًا، وقد يكون غير مشروع، قد يكون حرامًا لذاته، وقد يكون حرامًا لغيره، فالخنزير حرامٌ لذاته، ولكن أن تأكل طعامًا دون أن تدفعَ ثمنه؛ هذا حرامٌ لا لأنّ الطعام محرّم، بل لأنّ طريقة تناوُلك إيّاه محرَّمة، ومن العلماء من قسم تقسيما آخر فقال: الرزق أربعة أقسام: مضمون ومقسوم ومملوك وموعود، فالمضمون هو الغذاء وما به قوام البنية دون سائر الأسباب، فالضمان من الله تعالى لهذا النوع، والتوكل يجب بإزائه بدليل العقل والشرع، لأن الله تعالى كلفنا خدمته وطاعته بأبداننا فضمن ما يسد خلل البنية لنقوم بما كلفنا، وأما الرزق المقسوم، فهو ما قسمه الله سبحانه وكتبه في اللوح المحفوظ- وللإشارة اللوح المحفوظ هو في الهواء فوق السماء السابعة وهو معلق بالعرش، وعنى المحفوظ أي هو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب، وسمي محفوظا لأنه حفظ من الشياطين ومن الزيادة والنقص وهو عن يمين العرش- مما يأكله العبد من الطعام وما يشربه من الشراب وما يلبسه من الثياب، كل واحد بمقدار مقدر ووقت مؤقت لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر عما كتب بعينه، وأما الرزق المملوك فهو ما يملكه كل واحد من أموال الدنيا على حسب ما قدر الله تعالى وقسم له أن يملكه، وهو من رزق الله تعالى، قال تعالى:”أنفقوا مما رزقناكم”،أي مما ملكناكم، وأما الرزق الموعود فهو ما وعد الله به عباده المتقين بشرط التقوى حلالا من غير كد، قال الله تعالى: “ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب”. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
أيها الإخوة الكرام، هناك نوع آخر من أنواع الرزق وهو الرزق الذي يستمر بعد الموت، فإذا مات الإنسان انتهت الأرزاق الظاهرة، أما الأرزاق الباطنة، فإن الإنسان ينتفع بها في حياته وفي البرزخ وفي جنة عرضها السماوات والأرض، وهنا أحب أن أقص عليكم قصة تتعلق بسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث ثبت اليوم أنه يملك حسابا في إحدى البنوك في السعودية، وله فندق مسمى باسمه يتم بناؤه بجوار المسجد النبوي، فما قصة ذلك؟
بعد الهجرة وزيادة أعداد المسلمين زاد الاحتياج إلى الماء، وكان بئر رومة من أكبر الآبار وهو المورد الرئيسي للماء بالمدينة، إلا أن هذه البئر يملكها يهودي مستغل بمعنى الكلمة وهو يبيع الماء بيعاً ولو بالقطرة، فلما علم عثمان رضي الله عنه بالقصة ذهب إلى اليهودي وأخبره أنه يريد أن يشتريَ منه البئر فرفض اليهودي، فعرض عثمان أن يشتري نصف البئر فيكون يوماً له ويوماً لليهودي يبيع منه، فوافق على أساس أن عثمان تاجر شاطر وسيرفع سعر الماء فيزداد مكسب اليهودي، لكن حدث العكس فقد قل الطلب على الماء حتى انعدم تماما فتعجب اليهودي وبحث عن السبب، فاكتشف أن عثمان جعل يومه لوجه الله يأخذ فيه الناس حاجتهم دون مقابل، فأصبح الناس يشربون جميعاً في يوم عثمان ولا يذهبون للبئر في يوم اليهودي، فشعر اليهودي بالخسارة وذهب إلى عثمان رضي الله عنه وقال له أتشتري باقي البئر فوافق عثمان واشتراه مقابل 20 ألف درهم وأوقفه لله تعالى يشرب منه المسلمون.
بعد فترة جاءه أحد الصحابة وعرض على عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يشتري منه البئر بضعفي سعره فقال عثمان عُرضَ علي أكثر، فقال أعطيك ثلاثة أضعاف فقال عثمان عرض علي أكثر حتى وصل إلى تسعة أضعاف فرفض عثمان فاستغرب الصحابي وقال لا يوجد مشترِ غيري فمن هذا الذي أعطاك أكثر مني؟ فقال عثمان: الله أعطاني الحسنة بعشرة أمثالها، لقد أوقف عثمان البئر للمسلمين.
وبعد فترة من الزمن أصبحت النخيل تنمو حول هذه البئر، فاعتنت به الدولة العثمانية حتى كَبُر، وبعدها جاءت الدولة السعودية واعتنت به أيضا حتى وصل عدد النخيل ما يقارب 1550 نخلةً، فأصبحت الدولة ممثلة في وزارة الزراعة تبيع التمر بالأسواق وما يأتي منه من إيراد يُوزع نصفُه على الأيتام والمساكين والنصف الأخر يوضع في البنك في حساب باسم عثمان بن عفان تديره وزارة الأوقاف، وهكذا زكا المال ونما حتى أصبح في البنك ما يكفي من أموال لشراء قطعة أرض في المنطقة المركزية المجاورة للحرم النبوي بعد ذلك تم الشروع ببناء عمارة فندقية كبيرة من هذا الإيراد أيضا.
البناء في مراحله النهائية الآن وسوف يتم تأجيره لشركة فندقية من فئة الخمس نجوم، ومن المتوقع أن تأتي بإيراد سنوي يقارب 50 مليون ريال سعودي، نصفُها للأيتام والمساكين ونصفُها في حساب عثمان رضي الله عنه في البنك، والجميل والعجيب أن الأرض مسجلة رسميا بالبلدية باسم عثمان بن عفان، سبحان الله هذه تجارة مع الله بدأت واستمرت طوال 14 قرنا فكم يكون ثوابها؟ والحمد لله رب العالمين.
الدعاء…

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *