عقوق الوالدين، صوره وتجلياته وأسبابه وطرق علاجه-2-

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، قيل: إن رجلاً شكا إلى نبي سوء خلق أمه، فقال له: لم تكن أُمك سيئة الخلق حين أرضعتك حولين كاملين ؟ ولم تكن سيئة الخلق حين أسهرتها الليل، ولم تكن سيئة الخلق حين رعتك، لقد جازيتها بهذا ؟.

أيها الإخوة الكرام، في الخطبة الماضية تطرقت لموضوع عقوق الوالدين، فعرفت بمعنى العقوق في اللغة والشرع، ونبهت على بعض صوره وتجلياته الكثيرة في أيامنا هذه، وبقي أن أتكلم عن أسبابه، وكيفية معالجته والإسهام في بناء جيل يحسن التعامل مع الآباء خاصة في الكبر.

أيها الإخوة الكرام، أما أسباب عقوق الوالدين فهي كثيرة، فمنها الأسباب النفسية، والأسباب التربوية والأسباب الاجتماعية، أما الأسباب النفسية فتسهم فيها بعض تعاملات وتصرفات الوالدين مع الأبناء، وذلكم كالتمييز بين الأبناء في المعاملة وفي الميراث، وعدم الجلوس معهم والتحاور معهم بين الحين والآخر، وقمعهم بكثرة ومعاملتهم بشدة، وعدم أخذهم لمجالس الخير في الصغر، وتجاوز الحد اللائق والوسط في استغلال أموالهم، وغير ذلكم من التصرفات التي تؤثر سلبا على نفسية الأولاد، وتجعلهم لا يطيعون والديهم، جاء في الأثر:”من أكل من مال ابنه فليأكل بالمعروف”، وفي الأثر أيضا :”رحم الله والداً أعان ولده على بره”، وورد أيضا أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر سيدنا عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ابنه وأنَّبه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ قال: بلى، فقال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن ينتقي أمه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلِّمه الكتاب –القرآن- فقال الابن: يا أمير المؤمنين، إنه لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجيةٌ كانت لمجوسي، وقد سماني جُعْلاً -أي خنفساء- ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً، فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل، وقال له: أجئت تشكو عقوق ابنك؟ لقد عققته قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك”، فينبغي إذن أن ننتبه لبعض تصرفاتنا مع أبنائنا.

وأما الأسباب التربوية المسهمة في العقوق، فيتحمل مسؤوليتها كل من يعنيهم شأن تربية الأولاد في المجتمع ابتداء من الآباء والمؤسسات التعليمية والعلماء والإعلاميون وغيرهم، وتتجلى هذه الأسباب في ترك الأولاد للشارع ولأصدقاء السوء يؤثرون فيهم ويوجهونهم، وترك الأولاد للشبكة العنكبوتية والمواقع الفاسدة دون توجيه أو تحذير من المفاسد، وترك الأولاد مع الهواتف الذكية الساعات الطوال، وعدم متابعة أمورهم التربوية والدراسية عن كثب، وتركهم أمام القنوات الفضائية يقلدون كل من هب ودب، وتعلم المفاهيم المغلوطة واللاأخلاقية في التعامل مع الآباء، وكثيرا مايصور الإعلام السلبي الابن أو البنت في صورة الضحية، التي ينبغي أن تعبر عن تمردها وعدم رضاها عن الوضع الأسري، وتعبر عن استقلاليتها بعدم طاعة الوالدين، والخروج في مغامرات غير محسوبة العواقب  وأمام هذا كله غاب دور الوالدين الأول في التربية والتوجيه، وبات على الآباء والأمهات في أيامنا هذه أن يطلبوا رضا ابنائهم عوض أن يطلب الأبناء رضى والديهم.

وإذا تأملنا في طريقة تربية الجيل السابق من آبائنا وأجدادنا رحمة الله عليهم، نجدهم كانوا يحرصون على ترسيخ أمور كثيرة في هذا الجانب تساهلنا فيها نحن كثيرا، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، مسألة تقبيل اليد للأب وللأم وللذين نحترمهم ويعيشون معنا، ومسألة عدم الإقدام على أي أمر دون استئذان، ومسألة تعليم الأبناء أن يكونوا رهن إشارة آبائهم، وغير ذلك، هذه أمور شكلية ولكنها مؤثرة في تربية الأبناء على الوفاء والبرور.

فعندما نتأمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، نجدهم كانوا يحرصون على تعليم هذه الآداب، أخرج الإمام الطبراني، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ومعه شيخ فقال له: ” يافلان من هذا معك ؟ “. قال: أبي، قال:” فلا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه، ولا تستسب له”، ولا تستسب له: أي لا تكن سبباً في سبه، وهو المعنى القريب الذي استفاده بعض العلماء من قول الله تعالى: “وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً”، يعني قل لهما قولاً ليناً لطيفاً، كقولك في مخاطبته من غير أن تسميه باسمه أو تكنيه، وتقول له محترما ومقدرا: يا أبتاه، ياأبتِ، يا أبي، يا أُماه، – أو كما يقول المغاربة: أمي لالة، أمي العزيزة، أمي الغالية، أبا سيدي، أبا حنيني- .

وفسر التابعي سعيد ابن المسيب رحمه الله القول الكريم في الآية بقوله: أن يخاطب أباه كما يخاطب العبد سيداً فظاً غليظاً، أي كأن عبداً مذنباً يخاطب سيداً فظاً غليظاً فإنه يتلطف، ويرجو، ويتضرع، ويتحبب، ويتوسل.

أما الأسباب الاجتماعية للعقوق، فتكمن في حصول الشنآن بين الأب والأم بكثرة أمام الأبناء، وتخاصم الآباء أمام الأبناء، وحصول حالات الطلاق بكثرة، وترك الأبناء في مرحلة الطفولة يعانون، أضف إلى ذلك الشارع وما يعلم من مفاسد، وتحريض بعض الأزواج على الآباء أو الأمهات، وتقديم الزوجة على الأم، وما يحصل عن ذلك من مشاكل، ووسائل التكنولوجية الحديثة التي يلجها الأبناء دون توجيه أو مراقبة…. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فياعباد الله،

ولمعالجة ظاهرة عقوق الوالدين، فإنه لابد من تظافر جهود الآباء والمؤسسات التعليمية والعلماء ومختلف المنابر التي يعتمدون عليها، والإعلام بمختلف أنواعه، وذلكم بقصد تعليم الأبناء الحرص على بر والديهم، وتجنب عقوقهمم؛ رغبة فيما عند الله من جزيل الثواب، ورهبة مما لديه من شديد العقاب، العاجل والآجل، وبدون مشاركة كل هؤلاء في تعليم هذه القيم النبيلة، فإننا سنصير حتما مثل المجتمعات الغربية التي قننت الظاهرة، وأوجدت لها حلولا ترقيعية، تتمثل في الإكثار من بناء دور العجزة والمسنين، ولذلكم ينبغي كذلك التركيز على تعليم الأبناء وتلقينهم الآثار الطيبة لبر الوالدين، هذه الآثار التي أكدتها نصوص ديننا الحنيف، فالالتجاء إلى الله ببر الوالدين ينجي من الكروب كما ورد في الحديث الصحيح، وأن دعوة الأب لابنه دعوة مستجابة، روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده”، وأن بر الوالدين سبب لمغفرة الذنوب والزيادة في العمر والرزق، وأن العقوق من أسباب تعجيل العقوبة في الدنيا، كما ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام الطبراني: “بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم”، كثيرون هم الشباب الذين يشتكون من انغلاق أبواب التيسير أمامهم بعد الأخذ بكل الأسباب، هؤلاء أقول لهم راجعوا علاقتكم بوالديكم ولهذه الخطبة تتمة سنأتي عليها في الخطبة المقبلة بحول الله تعالى، والحمد لله رب العالمين

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *