محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم -2-
بسم الله الرحمن الرحيم
(الإحتفال بذكرى المولد النبوي) محبته صلى الله عليه وسلم (2)
الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الرسالة، وهدى برسول الله الإنسانية إلى الحق وسواء السبيل بعد التيه والضلالة، وبعث في الناس رسولا من أنفسهم يحرص على خيرهم ويطهرهم مما تخلقوا به من جاهلية وسفاهة، نحمده تعالى ونشكره شكرا جزيلا يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، ختم به النبوة والرسالة، وجعله أسوة لكل من اتبعه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات، في غمرة الإحتفال بذكرى مولد سيد الخلق وحبيب الحق، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، تناولنا في الجمعة الماضية الحديث عن المحبة التي كان يتفانى الصحابة رضوان الله عليهم في إظهارها وتمثلها في جميع أحوالهم، ومواقفهم التي ضربنا ببعضها المثل، لندرك بأن الصحابة رضوان الله عليهم عاشوا محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت تهون دونها كل الصعاب، وبذلوا من أجلها أرواحهم ومهجهم، وأعطونا بذلك الدليل على أولوية هذه المحبة في إيمانهم، وأننا بالمقابل لم نعرف رسولنا بالقدر الكافي الذي يجعلنا نقف عند أوامره فننفذ منها ما استطعنا القيام به، والوقوف عند النواهي التي نهانا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على اقترافها فنبتعد عنها، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “ما أمرتكم به فآتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاتنهوا”، واليوم بإذن الله تعالى، نواصل الحديث عن محبة الصحابة والتابعين لرسولنا وقدوتنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، علنا نشعل فتيل هذه المحبة في قلوبنا لنستضيء به في مسيرة حياتنا، أيها الإخوة المؤمنون، إن محبة الصحابة تتجلى في التفاني في طاعته والاهتداء بهديه والتزام سنته، لأنهم (ض) كانوا يتمثلون قوله تعالى: “مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا”، وقوله عز وجل: “وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ”، فكانوا (ض) يتنافسون في طاعته وامتثال سنته، كي يفوزوا برضا ربهم وينجوا من عقابه، وانقادوا طائعين مطبقين لسنته دون أن يفرقوا بين دقيق ما يبلغهم أو عظيمه من جهة التطبيق والاتباع، وإليكم إخوتي بعض الأمثلة، ومنها ضحكهم (ض) عند موضع معين، أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: “رَأَيْتُ عَلِيًّا (ض) أتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا له مقرنين وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون، ثم حَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ مِمَّ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ يَعْجَبُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَيَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي”، ومنها أيضا التحرك كما صنع النبي: فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: “كُنَّا مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَمَرَّ بِمَكَانٍ فَحَادَ عَنْهُ فَسُئِلَ لِمَ فَعَلْتَ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ هَذَا فَفَعَلْت”، ومنها أيضا تمثل طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية الشرب على الهيئة التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج البخاري في كتاب الأشربة من صحيحه، باب الشرب قائما، عَنْ النَّزَّالِ قَالَ أَتَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ (ض): “إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ”، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ مَيْسَرَةَ وَزَاذَانَ قَالَا: “شَرِبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَشْرَبْ قَائِمًا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَائِمًا، وَإِنْ أَشْرَبْ جَالِسًا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ جَالِسا”، ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم، اتباعه في الإتيان بالعبادات كما كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سيدنا جَابِر بن عبد الله قال: “رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ”، فسارع عمر بن الخطاب (ض) في الاستجابة مبيناً لمن حوله أنها اتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج البخاري في صحيحه أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب (ض) قَالَ لِلرُّكْنِ: “أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ”، فاللهم اجعلنا من المحبين لرسول الله، المتمسكين بسنته المقتفين أثره، المهتدين بهديه، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، من علامات محبة الصحابة الكرام (ض) حرصهم الشديد على عدم إلحاق الأذى به ولو كان يسيرا، وذلك لأ من أحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه والناس أجمعين، لا يمكن أن يفعل أيَّ شيء فيه أذى لمحبوبه، فقد أخرج القاضي عياض في كتاب الشفا عن المغيرة بن شعبة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرعون بابه بالأظافير”، يقول الصنعاني: ” والظاهر أنهم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدبا”، أيها المؤمنون، لما نزل قوله تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ”، ظن ثابت ابن قيس (ض) أنه المقصود في الآية فحبس نفسه في بيته لأنه بحسب رأيه رأى أنه قد آذى النبي صلى الله عليه وسلم وتجاوز الأدب معه، على الرغم من أن طبيعة صوته جهورياً دون أن يقصد رفعه على صوت النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج البخاري في صحيحه، في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ فَقَالَ: شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ –أحد الرواة- فَرَجَعَ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة” هذا هو الحب، هكذا أيها الإخوة المؤمنون، كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقفون عند دقائق الأمور ليتمثلوا من خلالها أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع شرعه، وإحياء سنته واجتناب نواهيه، وهكذا نريد أن نحتفل بذكرى مولد رسولنا الأكرم، لتختلج محبته صدورنا، ويتشبع بها أبناؤنا، ولنتأسى به في جميع أحوالنا. الدعاء