ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان وأن اعبدوني2
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، تتمة لما بدأناه في الخطبة الماضية حيث تكلمنا حول موضوع: الشيطان الرجيم والتعريف به وبطرقه في التلبيس على المسلمين وأعظم مداخله عليهم، ووسائل دفعه والوقاية منه أقول: إننا عندما ننظر في المجتمع من حولنا نجد أن بعض الناس وإن انتمى إلى ملة المسلمين وتلبس بلباس المؤمنين الخاشعين، تجده في سلوكه العام لايزال يجنح ويركن إلى الكثير من خطوات الشيطان وأعماله الحقيقية، فالكثير منا تجده في علاقته مع الناس يتكبر عليهم أو يخونهم، ومنا من يشرب الخمر ويعاقرها ويضيع أمواله في القمار، ومنا من ينمم ويزرع سبل الفتنة بين أهل المجتمع الواحد، ومنا من لايزال يزني أو يأكل أموال اليتامى أو يتهاون بالصلاة أو لايؤدي زكاة أمواله ومنا الكثير من يمني نفسه بطول العمر، ومنا من يظلم الناس ويتعدى عليهم، ومنا من ينافق ويخادع ومنا من يطيع هوى نفسه، ومنا من يخشى الفقر مع أن الله ضمن الأرزاق، ومنا من يقدم رجلا نحو التوبة النصوح ويؤخر أخرى، ومنا ومنا، وهذه كلها عند النظر نجدها أعمالا إن تلبسنا بها نكون حتما نمشي في طريق الشيطان ونكثر من سواد حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، روي عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام أنه قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا، يعني أن الجنة قد حفت بالمكاره والنار قد حفت بالشهوات، وإن في كل نفس شيطانا يمثل إليها، وملكا يلهمها ولا يزال الشيطان يزين ويخدع، ولا يزال الملك يمنعه، فأيهما كانت النفس معه كان هو الغالب.
أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل حكاية عن إبليس: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)، يعني أن عمل الشيطان الأول والدائم هو أن يتعرض لكل واحد منا على طريق الهداية ويمنعه من الوصول إلى الأنس بالله، أي كأنه يقول: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ولأرصدنهم ولأصدنهم ثم لآتينهم من بين أيديهم، يعني من أمر الآخرة، حتى أجعلهم في الشك، ومن خلفهم لأزينن لهم الدنيا حتى يطمئنوا إليها، وعن أيمانهم، يعني آتيهم من جهة الدين، وعن شمائلهم يعني من جهة المعاصي، ولا تجد أكثرهم شاكرين، يعني على نعمك.
أيها الإخوة الكرام، أخرج أبو داود عن جبير بن مطعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي، قال الله أكبر كبيرا ثلاثا، والحمد لله كثيرا ثلاثا، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه، قال نفثه الشعر، ونفخه الكبر، وهمزه الموتة”، قال بعض شراح الحديث: قوله: نفثه الشعر، لأن الشعر يخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق، قوله: ونفخه الكبر، وذلك لأن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ، وقوله: وهمزه الموتة، الموتة الجنون، لأن المجنون ينخسه الشيطان، تأملوا أيها الإخوة الكرام، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير العالمين وأعلمهم وأعقلهم وأفضلهم عند الله تعالى، يحتاج مع ذلك أن يستعيذ بالله من شر الشيطان فكيف بنا نحن مع جهلنا ونقصنا وكثرة غفلتنا عن عاقبة أمرنا ؟ .
قال أحد الربانيين:” اعلم أن لك أربعة من الأعداء، فتحتاج أن تجاهد مع كل واحد منهم، أحدها الدنيا وهي غرارة مكارة، قال الله تعالى:”وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”، وقال أيضا:” فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور”، والثاني نفسك وهي شر الأعداء، والثالث الشيطان، والرابع شيطان الإنس فاحذره فإنه أشد عليك من شيطان الجن، لأن شيطان الجن يكون أذاه بالوسوسة، وشيطان الإنس هو رفيق السوء، ويكون أذاه بالمواجهة والمعاينة، لا يزال يطلب عليك وجها يردك عما أنت فيه، وكان أحد العلماء عند ابتداء دروسه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مرة، وأعوذ بالله من شيطان الإنس ألف مرة.
أيها الإخوة الكرام، إن مداخل الشيطان وأبوابه كثيرة وحسبي في هذه الخطبة الإشارة إلى الأبواب العظيمة، فمن أهمها الغضب والشهوة، فإن الغضب فيه سرعة حدة، وإذا ضعف جنود العقل هجم جنود الشيطان، وجنود العقل هم العلم بالله واليقين، وجنود الشيطان الجهل والطمع وحب الدنيا، ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة يدحرجه كيف يشاء، ذكر في بعض الكتب أن بعض الربانيين قال لإبليس: أرني كيف تغلب ابن آدم؟ فقال آخذه عند الغضب وعند الهوى، أي عندما تميل النفس إلى أمر دنيوي، وقيل إن الشيطان يقول: كيف يغلبني ابن آدم، وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه، وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه، وابن آدم لا يخلو من تينك الحالتين، وهو في كلتا الحالتين ملازم له يعده ويمنيه ويراه من حيث لايراه، فكيف يغلبه؟، ولا يحصى أيها الإخوة الكرام اليوم عدد الجرائم التي كان وراءها غضب حاد، ولا يحصى عدد السجناء الذين هم الآن في السجون بسبب غضب حاد أو استجابة لنزوة عابرة أو اتباع لهوى النفس.
ومن أبوابه العظيمة الحرص، فمهما كان العبد حريصا على كل شيء أعماه حرصه وأصمه، إذ قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء:” حبك للشيء يعمي ويصم”، ومن أبوابه العظيمة الشبع من الطعام وإن كان حلالا صافيا لا شبهة فيه، فإن الشبع يقوي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان، ومن أبوابه حب التزين من الأثاث والثياب والديار التي نسكنها، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه أولا إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها وكثرة مرافقها، ويدعوه ثانيا إلى التزين بالثياب الفاخرة والسيارات الفارهة، ويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية فإن بعض ذلك يجره إلى بعض، ونحن هنا لسنا ضد أن يأخذ الواحد منا نصيبه من الدنيا، ولكننا ضد من يصرف كل وجهته ووقته وعمله إليها وينسى مولاه بالكلية، ومن أبوابه العظيمة الطمع في الناس فإذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع في ماله أو جاهه بأنواع من الرياء والتلبيس حتى يصير المطموع فيه كأنه معبوده، فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه، ويدخل كل مدخل للوصول إلى ذلك صعب ذلك المدخل أو هان، وأقل أحواله: الثناء عليه بما ليس فيه والمداهنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك: “التأني من الله والعجلة من الشيطان” فمن أبواب الشيطان اللعين العظيمة العجلة وترك التثبت في الأمور، وهذا لأن أعمالنا كلها ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل، والعجلة تمنع من ذلك، روى الإمام البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس:” إذا تأنيت أصبت أو كدت وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطئ”، ومن أبوابه العظيمة الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب و المواشي والعقار، فكل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب عن هم المعيشة مستغنيا بالله عن كل ما سواه، ومن أبوابه العظيمة البخل وخوف الفقر، فإن ذلك هو الذي يمنع الإنسان من الإنفاق في سبيل الله ومن التصدق على المستحقين ويدعو إلى الإذخار والكنز والعذاب الأليم، ومن أبوابه العظيمة حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يزاولوا فيه بالتعلم وبالدراسة والانكباب على الهيئة المعهودة ولم يتبحروا فيه بالغوص على مشكلاته على التفكر في ذات الله تعالى وصفاته وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يوقعهم في الشك في أصل الدين أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات وظنونات يتعالى الله عنها ويجل شأنه عن نسبتها إليه وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره يظن ذلك هو المعرفة والعلم النافع، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول:من خلقك؟ فيقول: الله تبارك وتعالى، فيقول فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله”، وقريب من هذا أن يقرأ أحدنا بضع كتيبات في الدين فيسمح لنفسه بالافتاء في دين الله بغير علم، وهذا دون شك باب عظيم من أبواب الشيطان.
فهذه المذكورات بعض مداخل الشيطان إلى قلوبنا، وحسبنا أننا نبهنا إلى أهمها، ولقد صدق يحيى بن معاذ الرازي وهو من كبار التابعين والربانيين عندما قال: الشيطان فارغ عن الشواغل فلا يشغله إلا أن يهلكك، وأنت مشغول بأنواع المشاغيل إما دنيوية وإما أخروية، والشيطان يراك وأنت لاتراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، بمنع الخير وإيقاع الشر عليك، ومن نفسك للشيطان عليك أعوان، فإذن لا بد من محاربته وقهره وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك، فعليكم عباد الله بالانتباه لمكائد الشيطان، وتعملوا على مجاهدته ومحاربته وقهره، وذلك لخصلتين، إحداهما أنه عدو مضل مبين ولا مطمع فيه لمصالحة، والثانية أنه لا يقنعه إلا هلاكنا أصلا، فلا وجه إذا للأمن من مثل هذا العدو والغفلة عنه، وسنتابع بحول الله في خطبة لاحقة طرق دفع الشيطان الرجيم والوقاية منه، والحمد لله رب العالمين.