الإستعداد إستقبال شهر رمضان -2-
الإستعداد لإستقبال شهر رمضان 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله كثيرا، وسبحان الله والحمد لله بكرة وأصيلا، هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الإسلام لنا دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، بعثه الله للناس كافة بشيرا ونذيرا، وكان للمتقين إماما وبالمؤمنين رؤوفا رحيما، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية تكلمنا عن الإستعداد لإستقبال شهر الخير والمكرمات، شهر رمضان المبارك، وبيننا أن استعدادنا لإستقبال هذا الشهر ليس بالإستكثار من أنواع المآكل والمشارب والمشتهيات التي نملأ بها بطوننا بعد يوم من الصيام، وليس ببرمجة ساعات نهار رمضان وليله بما تقدمه الكثير من القنوات التلفزية التي نلتقطها عبر الشبكات الإرضية والفضائية والتي هي عبارة عن مسلسلات وأفلام ومباريات وسهرات وغيرها من الإبداعات التي ابتدعت خصيصا لإخراج رمضان عن ثمراته التي ينبغي علينا أن نجد ونسعي لجنيها، وإنما يستعد المسلمون المؤمنون الذين يعرفون لرمضان قيمته وفضله بما بيناه في الخطبة الماضية من كثرة الصيام في شهر شعبان كما قالت أم المؤمنين عائشة (ض): “ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيامَ شهر إلاَّ رمضان، وما رأيته أكثرَ صياما منه في شعبان”، وقالت (ض):”كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبانَ كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا”، وهذا الصيام مهم جدا خاصة بالنسبة للأزواج الذين يريدون تشجيع نسائهم وبناتهم على قضاء الدين من إفطار رمضان للسنة الماضية بسبب الأعذارالشرعية التي منحها الله عز وجل لنساء بني آدم، وكذلك للمرضى الذين عوفوا مما أصيبوا به في رمضان الماضي، وكذلك الإستعداد بكثرة قراءة القرآن، وقد سمعنا أن سلفنا الصالح يسمون شهر شعبان الذي نعيش في ظلاله بشهر القراء، والحمد لله هذه الخصلة نراها تتجدد في مجتمعنا ولو أنها بشكل لايلفت نظر الجميع ولكن المهتمين بالشأن الديني يدركون بالملموس كيف أن زمرة طيبة من أبناء أمتنا يعتنون بقراء القرآن وتعليمه حتى للأطفال والتباري في تجويده وحفظه وهذا من فضل الله تعالى ومنته على هذه الأمة، ثم نتهيأ لإستقبال شهر الصيام بتطهير أنفسنا من جميع الذنوب والمعاصي وتنقيةُ بيوتنا من جميع المنكرات والمخالفات، لنستحق بعد ذلك الفوز بعفو الله ومغفرته الشاملة التي وعد الله بها عباده حين قال: “قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”. فالتوبة النصوحُ خير زاد نقدمه بين أيدينا في شهر شعبان هذا حتى يحفظ الله بها الأعمالَ الصالحة التي نفعلها، ويكفِّر الله بها المعاصيَ التي وقعنا فيها، ويدفع الله بها العقوباتِ النازلةَ والآتيَة، قال الله تعالى: “فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ”، روى ابن جرير(ح) في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: “لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتُرِكت إلا قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبسوا المسوح، وألهوا بين كلّ بهيمة وولدها -أي: فرّقوا بينهما-، ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرف الله الصدقَ من قلوبِهم والتوبة والندامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم العذابَ بعد أن تدلَّى عليهم”، والتوبةُ واجبة على كلِّ مسلم كيفما كان، فالواقعُ في الكبيرة تجِب عليه التوبة إلى الله عزّ وجلّ لئلاّ يبغته الموت وهو مقيمٌ على معصية، والواقعُ في صغيرةٍ تجب عليه التّوبة لأنّ الإصرار على الصغيرة يكون من كبائر الذنوب، والمؤدِّي للواجبات التاركُ للمحرّمات تجب عليه التّوبة أيضا لما يلحَق العملَ من النقائص التي تحول دون قبوله، وما يُخشى على العمل من الشوائب المحذَّر منها كالرّياء والسّمعة ونحو ذلك، روى مسلم عن الأغرّ بن يسار (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أيّها الناس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإنّي أتوب في اليوم مائةَ مرّة”، والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق به الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله، لأنّ العبد إذا أحدث لكلّ ذنبٍ يقع فيه توبةً كثُرت حسناته ونقصت سيّئاتُه، قال الله تعالى: “وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً”، وكفى بالتوبة زادا لمن أراد أن يقبل على الله تعالى في رمضان، فهي دأب الأنبياء والمرسلين، وصفة من صفاتهم، قال تعالى: “لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأنصَاٰرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ”، وقال تعالى عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: “قَالَ سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ”، وقال عن داود عليه الصلاة والسلام: “وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ”، وقال عزّ وجلّ: “ٱلتّـٰئبون ٱلْعـٰبدون ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ” ومن التوبة السماح والتصالح بين الإخوان، وبر الوالدين، وإكرام الزوجة، ورد المظالم، وإبراء الذمم من الديون والتبعات، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: “أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي؟، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْتَصُّ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ” . فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلتَّوْبَةِ وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى التَّوْبَةِ أَشَدُّ مِنَ التَّوْبَةِ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له، عباد الله من اتقى الله فاز برضى مولاه، ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، ها هم بنو إسرائيل يلحق بهم قحط شديد على عهد موسى عليه السلام، فيجتمعون إلى نبي الله موسى عليه السلام فيقولون: يا نبي الله ادع لنا ربك أن يغيثنا الغيث، فقام معهم وقد خرجوا إلى الصحراء وعددهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع. فما زادت السماء إلا تقشعاً، والشمس إلا حرارة، فتعجب نبي الله موسى من ذلك وسأل الله عن ذلك، فأوحى الله إليه أن فيكم عبداً يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم، فقال موسى: إلهي وسيدي، أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف، فأين يصل صوتي ويظهر وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فأوحى الله إلى موسى أن منك النداء ومنا البلاغ، فقام نبي الله موسى عليه السلام منادياً في الناس قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعاصي منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا، منك ومن ذنوبك منعنا القطر من السماء، فقام العبد العاصي ونظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج فعلم أنه المقصود، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا القطر من السماء بشؤمي وشوم ذنبي ومعصيتي، فما كان من هذا العبد العاصي إلا أن أدخل رأسه في ثيابه نادماً ومتأسفاً على فعاله ثم قال: يا إلهي ويا سيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً تائباً نادماً فاقبلني ولا تفضحني يا كريم، فما أكمل كلامه حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأمثال القرب حتى ارتوت الأرض وسالت الأودية، فقال موسى عليه السلام: إلهي وسيدي، سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال الله: يا موسى أسقيتكم بالذي به منعتكم، فقال موسى: إلهي أرني هذا العبد الطائع التائب، فقال الله: يا موسى لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني. أيها الإخوة المؤمنون، هكذا ينبغي أن نستعد لإستقبال شهر الفضائل والمكرمات، وهكذا ينبعي أن نعد أنفسنا، ونغسلها بماء التوبة النصوح، لنكون وعباداتنا عند الله مقبولين، إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”، الدعاء