إطلالة على حياة الإمام المجدد أحمد بن عرفان الشهيد وجهاده [1201هـ ـ 1264هـ]
الفصل الأول
من الولادة إلى التربية
مولده ونشأته
ولد السيد أحمد بن عرفان بن محمد نور بن محمد هدى بن السيد علم الله (1) في دارة الشيخ علم الله المعروف الآن بـ «تكية كلان» بمديرية
«رائى بريلي» في صفر سنة 1201هـ (نوفمبر 1786م) في بيت علم وورع (2)، فقد كان والده وعمه وخاله وجداه من كبار الصالحين وأهل العلم، نشأوا في تربية الشيخ ولي الله الدهلوي، ومشايخ أسرتهم الذين كانوا دعاة مصلحين، ومجاهدين في سبيل الله، يتولون مناصب القضاء، والإرشاد، وكانوا منابر العلم والعرفان، وكان أخوه السيد محمد إسحاق من كبار العلماء، درس العلم في «لكناؤ»، ثم توجه إلى «دلهي»، وقرأ على الشيخ عبدالقادر الدهلوي، وبرع في الفقه والحديث، ثم أخذ الإجازة في الحديث من الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، وقضى عمره في التدريس والإصلاح.
فلما بلغ من العمرة السنة الرابعة التحق بأحد الكتاتيب كأبناء الأشراف، وكان والده السيد محمد عرفان وأخواه السيد إبراهيم والسيد إسحاق يهتمون غاية الاهتمام بتعليمه، ويراعون نشاطاته ويرشدونه، وحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم، وتعلم الكتابة إلا أنه ان أكثر اهتماماً بالتمرينات والألعاب التي تتصل بالفروسية والتربية البدنية، كأن الجهاد كان همّه المنشود وهدفه منه طفولته، فقد نشأ على قصص الجهاد والبطولة في مهد أمه، وكانت الظروف والأحداث المفجعة التي كانت تحدث في المناطق المجاورة والصراعات التي كانت تقع بين المسلمين وغير المسلمين تقلق باله، وتثير غيرته، وحميته الدينية، فكانت تشغل باله أكثر من العكوف على التعلم والانصراف الكامل إليه.
شغفه الزائد بالألعاب الفروسية
ذكر الشيخ أبوالحسن علي الحسني الندوي نقلاً عن مصادر موثوق بها في الأسرة «أن الشيخ أحمد كان له شغف زائد بالألعاب الرياضية منذ طفولته وخاصة الألعاب التي تنمي قوة الجسم، وأحياناً كان يقسم أصحابه من الأطفال ويجعلهم فريقين، ويهاجم أحد الفريقين الآخر.
ولغلبة حب الجهاد في سبيل الله كان السيد أحمد يجري تمرينات مضنية، ويعود نفسه على تحمل الشدائد، فكان يقوم بتمرينات شاقة للرياضة البدنية عدة ساعات، وتعلم خلال هذه التمرينات القتال بالسيف، والرماح، والسهام، وإطلاق النار من البندقية، وبرع في إصابة الهدف، وقد كان يحمل أثقل الأشياء، وتعلم السباحة أيضاً من الشيخ عليم الله الدهلوي (3) وتمهد فيها.
رحلته إلى لكناؤ(4)
لما بلغ السيد أحمد السابعة عشرة من عمره توجه مع جماعة من أقاربه وأحبائه إلى «لكناؤ»، وكانت هذه الجماعة تشتمل على سبعة أشخاص، ولم يكن لدى هذه الجماعة إلا فرس واحد، وكانوا يتناوبون ركوبها، وآثر السيد أحمد أن يسافر راجلاً، فقطع المسافة كلها وهي ثمانون (80) كيلومتراً راجلاً.
قضى السيد أحمد أربعة أشهر في هذا الحال يخدم الناس، ويدعوهم إلى الخير، ويتحمل المشاق، وذات يوم توجه والي لكناؤ للصيد إلى منطقة جبلية، ورافقه كذلك مضيف السيد أحمد فصحبه السيد أحمد أيضاً مع رفقائه.
إلى دلهي(5)
وفي هذه الرحلة خطر ببال السيد أحمد أن يسافر للاستفادة العلمية والدينية من أبناء الشيخ ولي الله الدهلوي كالشيخ عبدالعزيز، والشيخ عبدالقادر الدهلوي، وقد كان أخوه الأكبر السيد محمد إسحاق قد أقام مدة في دلهي، واقتبس من معارف الشيخ عبد العزيز.
عناية الشيخ عبدالعزيز والشيخ عبدالقادر به
كان مركز الشيخ عبدالعزيز أكبر مركز للتعليم والتربية في عصره، كان يؤمه روّاد العلم من كل جهة، ويعودون إلى أوطانهم بعد التبحر في كل علم من العلوم الإسلامية كالفقه والحديث والتفسير والأدب، أما الشيخ عبدالقادر الدهلوي فقد كان صاحب مدرسة في التفسير وقد عرف بترجمان القرآن، وقد استفاد السيد أحمد من الشيخين علمياً وتربوياً 1، واجتاز مراحل التربية والسلوك والإحسان، ونال الإجازة.
عودته إلى وطنه
ثم عاد إلى وطنه «رائي بريلي» وقضى هذه الفترة منذ رحلته من لكناؤ إلى عودته إلى «رائي بريلي» في المجاهدات المضنية، فتغير تغيراً كاملاً لم يعرف حتى أقرب أفراد أسرتهن فظنوا أنه مسافر أو عابر سبيل دخل المسجد، فلما عرفه أقاربه ذهبوا به إلى البيت وأقام في وطنه عدة سنوات، قضاها في الدعوة والإرشاد وإصلاح أحول الناس، وتربية أصحابه تربية دينية، وإعدادهم للجهاد، وقد كان همه الاستعداد للجهاد، وقد زاد هذا الهم خلال اقامته في تربية الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، فقد كان هو الموجه الأكبر إلى حركة الجهاد الذي اشتعلت نيرانه في الهند ضد أعداء الإسلام، وقد أصدر الشيخ عبدالعزيز الفتوى للحرب لإعادة كلمة الإسلام الذي كان يهدده تصاعد نشاطات الإنجليز.
الرحلة الثانية إلى دلهي والانضمام إلى عسكر أمير خان
قام السيد أحمد برحلة ثانية إلى دلهي في عام 1226هـ، وأقام مرة أخرى في المسجد الأكبر آبادي بدلهي، ثم توجه إلى أمير خان (6) للتربية العسكرية، وقد كان أمير خان مشغولاً في ذلك الوقت في الحرب مع بعض الراجوات، وقد كانت هذه الإقامة فرصة سانحة للتعرف على القوي العسكرية النشيطة في الهند في ذلك العصر الذي كانت حكومة المغول فيه في حالة اندثار وتفكك بالإضافة إلى التربية العسكرية بالمشاركة العملية في العمليات الحربية، فكانت هذه الفترة فترة حاسمة في حياة السيد أحمد الذي كانت إقامة الحكم الإسلامي أحلى أمانيه، فإذا كانت إقامته بمركز الشيخ عبدالعزيز والشيخ عبدالقادر فرصة للتعليم والتربية وإصلاح الباطن وتزكية النفس، كانت إقامته في معسكر أمير خان فرصة للتجربة العملية للعمليات العسكرية ومعرفة القوى العسكرية التي كانت تهدد الكيان الإسلامي في الهند، والقوى الكامنة في المسلمين التي يمكن استغلالها والاستفاد منها للجهاد وإنشاء الحكم الإسلامي في الهند، كما كانت صلات أمير خان ببعض الراجوت الذين كانوا متحالفين معه، تهيئ الفرصة للاستفادة من هذه القوى لدعم حركته للجهاد ضد الإنجليز ومن والاهم، وبينما تحالفت عدة إمارات للمسلمين والهندوس مع الإنجليز الذين صاروا أكبر قوة تتحدى الحكم الإسلامي، كانت هناك إمارات عديدة لم تستسلم للإنجليز، بل كانت مستعدة لقتالهم، ولم يكن من المستعبد إنشاء جبهة متحدة مع هذه القوى.
—-
الهوامش
1 – ابن الشيخ فضيل بن الشيخ محمد المعظم بن القاضي أحمد بن القاضي محمود بن القاضي علاء الدين بن القاضي قطب الدين محمد الثاني بن صدرالدين بن زين الدين بن أحمد بن قيام الدين بن صدر الدين بن القضي ركن الدين بن الأمير نظام الدين بن شيخ الإسلام الأمير قطب الدين محمد المدني بن رشيد الدين أحمد بن يوسف بن عيسى بن حسن بن أبي الحسن علي بن أبي جعفر محمد بن القاسم بن أبي محمد عبدالله الأشتر بن محمد صاحب النفس الزكية بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن سبط النبي صلى الله عليه وسلم.
2 – وصرح الأستاذ غلام رسول مهر في كتابه «السيد أحمد الشهيد» أنه ولد في السادس من صفر المظفر 1201هـ (29/ من نوفمبر 1786م)، وذلك يوم الاثنين.
3 – كان من أمهر وأشهر سباحي دلهي عاصمة الهند.
4 – لكناؤ مدينة العلم والأدب والثقافة كانت عاصمة إمارة أودهـ (OUDH) في الولاية الشمالية في آخر آيام الدولة المغولية، كانت تحكم فيها أسرة إيرانية الأصل شيعية المذهب، استقلت في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وانقرضت هذه الحكومة في سنة 1757م باحتلال الإنجليز، وكان شاه غازي الذين حيدر الشيعي ملك البلاد حين زار السيد لكناؤ، ومعتمد الدولة آغا مير رئيس الوزراء والآن هي عاصمة الولاية الشمالية في الهند.
5 – «دلهي» (Delhi) قاعدة بلاد الهند، وهي المدينة العظيمة الشأن الفخيمة الجامعة بين الحسن والحصانة فوق ربوة على ساحل جمنا فيها الأبنية القديمة التاريخية الفاخرة والقلاع التي لا يوجد لها نظير، منها «القلعة الحمراء» فهي من عجائب الدنيا، و»الجامع الكبير» و»منارة عظيمة’ ارتفاعها 242 قدماً، وهي منارة مسجد «قوة الإسلام» والصحيح كما يقول الشيخ عبدالعزيز الدهلوي رحمه الله.
يا من يسائل عن «دلهي» ورفعتها على البلاد وما حازته من شــــرف
إن البــــلاد إماء وهي سيـــدها لأنها درة والكـــــل كالصـــدف
فاقت بلاد الـــورى عزاً ومنــقبة غير الحجاز وغير القدس والنجف
وأول من جعلها دار ملكه «قطب الدين أيبك» بعد فتحها سنة تسع وثمانين وخمس مائة هجرية.
وفي تاريخ مدينة «دهلي» كتاب بسيط باسم «آثار الصناديد» للسيد أحمد بن المتقي الدهلوي مؤسس جامعة علي جراه الإسلامية وكتاب آخر «دهلي او اس كـ اطراف» للشيخ عبدالحي الحسني) طبعتها أكاديمية أردو بدلهي، وللاطلاع على مدن الهند وآثارها يراجع كتاب «الهند في العهد الإسلامي» للعلامة الشريف عبدالحي الحسني.
6 – كان النواب أمير خان قائداً أفغاني الأصل ذا همة عالية، من سكان «سنبهل» (روهيلكند) ولد سنة 1182هـ، هيأ جيشاً لنصرة المسلمين في البلاد، وخرج قائداً من سنبهل سنة 1202هـ والتف حوله عدد كبير من المغامرين من أصحاب الطموح والفتوة والفروسية والرفقاء الأوفياء المتحمسين، وذاع صيته كقائد عسكري وفارس واصبح يخشى ويرجى في مناطق الأمراء الذين كانوا في صراع دائم ومعارك حربية مع الإنجليز حتى أصبح بمر الأيام تحدياً لم يكن الإنجليز ليتغافلوا عنه ويستهينوا به، انضم السيد الإمام أحمد إلى عسكره للتربية العسكرية ومقاومة خطر الزحف الإنجليزي، ولكنه فارقه حينما دخل الأمير خان في صفقة مع الإنجليز رغم معارضته.