الحقوق المشتركة بين المسلمين (11) النصيحة -2-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقوق المشتركة بين المسلمين (11) –2–
الحمد لله، الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، نحمده تعالى ونشكره ونستغفره، ونستعين به ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلاهادي له، ونشهد لاإله إلا الله، وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه المبين: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله، جمع الله به الكلمة ووحد به الأمة، أرسى دعائم أخوة المسلمين ببيان الحقوق المشتركة، في قوله صلى الله عليه وسلم: “حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتّبِعه”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، نواصل سلسلتنا من الخطب المتعلقة ببيان الحقوق المشتركة بين المسلمين، التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على إشاعة التخلق بها بين المسلمين توطيدا لرابطة الأخوة الإنسانية وسبيلا لتمتين أواصر المحبة بين المسلمين، واليوم إن شاء الله تعالى نواصل الحديث عن حق النصيحة التي ورد ذكرها في الحديث: “وإذا استنصحك فانصح له”، فنقول وبالله التوفيق، أيها الإخوة المؤمنون، بعد أن علمنا في الجمعة الماضية أن للنصيحة آدابا تتلخص في 1- الإخلاص لله تعالى فيها، 2 العلم من الناصح بما ينصح به، 3 أن تكون النصيحة سراً، 4 مراعاة اللين والرفق في إسدائها للمنصوح، 5 أن لا تكون النَّصِيحَة على شرط القبول، وأخيرا مراعاة الوقت والمكان المناسب، نسلط الضوؤ اليوم عن الدور الديني والإجتماعي الذي تؤديه النصيحة في المجتمع إذا ما قام بها المؤهلون لها، باعتبارها لب الدين، وجوهر الإيمان، حيث عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “الدين النصيحة”، وهي تعبير واضح عن الحب الذي يكنه الناصح للمنصوح له، ووسيلة اجتماعية من شأنها تكثير الأصحاب والإخوان عندما تجد منهم السعي لما يزين أخلاقك وسلوكك، والنهي عما يشين هذا الجانب منك، كما أن النصيحة تؤدي دورها في إصلاح المجتمع إذ بفضل القيام بها تشاع الفضيلة في المجتمع، وتستر فيه الرذيلة، ومن فوائدها أيضا، أنها سبب لإحلال الرحمة، والوداد مكان القسوة والشقاق، والقائم بها مستحق لمحبة إخوانه وإكرامهم لجانبه، لآنه مرآتهم التي يرون من خلالها عيوبهم، فعن أبي هريرة (ض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه” قال المناوي: أي: يبصر من نفسه بما لا يراه بدونه، ولا ينظر الإنسان في المرآة إلا وجهه ونفسه، ولو أنه جهد كلَّ الجهد أن يرى جرم المرآة لا يراه، لأنَّ صورة نفسه حاجبة له، وقال الطيبي: إنَّ المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه، كالمرآة المجلُوَّة التي تحكي كلَّ ما ارتسم فيها من الصور، ولو كان أدنى شيء، فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء حاله تعريفات، وتلويحات، فإذا ظهر له منه عيب قادح كافحه، فإن رجع صادقه، وقال العامري: معناه كن لأخيك كالمرآة تريه محاسن أحواله، وتبعثه على الشكر، وتمنعه من الكبر، وتريه قبائح أموره بلين في خفية، تنصحه ولا تفضحه، هذا في العامَّة، أما الخواص فمن اجتمع فيه خلائق الإيمان، وتكاملت عنده آداب الإسلام، ثم تجوهر باطنه عن أخلاق النفس، ترقى قلبه إلى ذروة الإحسان، فيصير لصفائه كالمرآة، إذا نظر إليه المؤمنون، رأوا قبائح أحوالهم في صفاء حاله، وسوء آدابهم في حسن شمائله، أيها الإخوة المؤمنون الناصحون، لقد ذكر مشايخنا، أنه ينبغي للناصح أن يتخذ أساليب ووسائل يتمكن بواسطتها من إسداء النصح لأخيه، منها أولا: البدء بقضاء حاجته أولا ثم إسداء النصح له بعدها بحيث يكون لها حينئذ أثر ووقع على المنصوح، روي عن حكيم بن حزام قال: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إنَّ هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إنَّ عمر دعاه ليعطيه فيأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقَّه الذي قسم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه اللة”، ثانيا من الوسائل تقديم الهدية قبل النصيحة، وذلك لآن الهدية لها أثر قوي لإستشعار المحبة التي تربط بين كل منهما، وقد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم قوله: “تهادوا تحابوا”، فالهدية تحمل معان تربوية عظيمة وتوقع أثرا لا ينسى في نفس المهدى إليه، ومن الأساليب المستعملة في النصيحة التواصل بالرسائل، وهي أسلوب ووسيلة جيِّدة للتناصح، وقد استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام، وما زال السلف الصالح يقتفون أثره في هذه السنة المباركة، خاصة بين الآباء وأبنائهم، حتى لا يكسر جانب الحياء بينهما، جعلني الله وإياكم من الذين يرعون حقوق أخوة الإسلام، ويؤدون واجباتهم، ويمتثلون أمر ربهم ونبيهم، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه أمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، إليكم هذه القصة التي تعبر عن الدور الإجتماعي الذي تنتجه النصيحة بين المؤمنين، فعن أبي جحيفة (ض) قال: “آخى النَّبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أمَّ الدرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كلْ، فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن. فصليا، فقال له سلمان: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان”، وعن الحسن البصري (ح) قال: “قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله أن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة”، فاتقوا الله عباد الله، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما. الدعاء