التحذير من الإغترار بالحياة الدنيا -1-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله الذي حذرنا من دار الغرور، وأمرنا بالإستعداد ليوم البعث والنشور، نحمده تعالى وهو الغفور الشكور، ونشهد أن لا إله إلا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الجد والتشمير، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إن كثيرا من الناس اليوم قد صارت الحياة الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، ومنتهى آمالهم، وأقصى غاياتهم في حياتهم، أفنوا أعمارهم في حبها، وشغلوا أوقاتهم في طلبها، وأبلوا أجسامهم في جمعها، يبنون مالا يسكنون، ويجمعون ما لا يأكلون، ويتنافسون في الفساد والفجور وفي طغيانهم يعمهون، لا تمر الآخرة لهم على بال، ولم يتفكروا فيما أمامهم من الأهوال، كأنهم لم يسمعوا نداء ربهم الواحد القهار الذي يقول: “يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير”، أيها المسلمون، إن ربكم يناديكم ويؤكد لكم أنه لا بد من وقوع ما وعدكم به من الموت والبعث والنشور والجزاء على الأعمال بالثواب أو بالعقاب، ويحذركم من فتنة الدنيا وفتنة الشيطان الغرور، وإن في كتاب الله تعالى من التحذير من الإغترار بهذه الدنيا وبيان سرعة زوالها وتقلباتها وضرب الأمثال لها ما يكفي بعضه زاجرا “لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”، وإن الدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، فهي قنطرة نمر منها إلى ما بعدها، ومرحلة لا بد منها للتزود إلى الجنة وما فيها، وإنما يذم فعل العبد فيها من اشتغاله بالشهوات والملذات والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، وإلا فالدنيا مزرعة الآخرة، منها يأخذ العبد زاده لمعاده، لأن خير عيش ناله أهل الجنة إنما كان بسبب ما زرعوه في الدنيا من صالح الأعمال مع الإيمان، قال تعالى: “ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما”، وقال أيضا: “فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى”، وقال علي (ض) يصف الدنيا: “دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ومطلب نجح لمن سالم، فيها مساجد أنبياء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، فيها اكتسبوا الرحمة، وركبوا فيها العافية، فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت بنيها، ونعثت نفسها وأهلها فتمثلت ببلائها، وشوقت بسرورها إلى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا، فذمها قوم غذاة الندامة، وحمدها آخرون غداة الفوز والكرامة، ذكرتهم فتذكروا، ووعظتهم فاتعظوا، فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمت إليك؟ بل متى غرتك؟ أبمنازل آبائك في الثرى؟ أم بمضاجع أمهاتك في البلا؟ كم رأيت موروثا؟ كم عللت بكفيك عليلا؟ كم مرضت مريضا بيديك تبتغي له الشفاء؟ وتستوصف له الأطباء؟ ثم لم تنفعه شفاعتك، ولم تسعفه طلبتك، مثلت لك الدنيا غذاة مصرعه مصرعك، ومضجعه مضجعك”، ثم التفت (ض) إلى المقابر فقال: “يا أهل الغربة، ويا أهل التربة، أما الدور فسكنت، وأما الأموال فقسمت، وأما الأزواج فنكحت، فهذا خبر ما عندنا، فهاتوا خبر ما عندكم”، ثم التفت إلى الحاضرين فقال: “أما لو أذن لهم لأخبروكم أن خير الزاد التقوى”، أيها المغرور مثلي، كيف آثرت الحياة الدنيا على ما عند الله؟ وكيف شغلتك أموالك وأولادك عن ذكر الله؟ وأنت تسمع دوما كلام الله: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون”، ثم إنك تعلم أنك مهما عشت فإنك ميت، ومهما جمعت من مال فإنك تاركه، ومهما عملت من عمل فإنك مجزي به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. أخي المؤمن، لقد خرجت إلى الدنيا وليس معك شيئ، وستخرج منها وتترك كل شئ إلا عملك، قال تعالى: “ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ضهوركم”، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الإغترار بالدنيا غاية التحذير، وأخبر عنها بأنها “لو ساوت عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء”، وأنها “أهون على الله من الشاة الميتة على أهلها”، وأن مثلها في الآخرة كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه في البحر، وأنها “سجن المؤمن وجنة الكافر”، وأمر العاقل أن يكون فيها “كأنه غريب أو عابر سبيل”، ويعد نفسه من أهل القبور، و”إذا أصبح فلا ينتظر المساء، وإذا أمسى فلا ينتظر الصباح”، وأخبر أنها خضرة حلوة تأخذ العيون بخضرتها، والقلوب بحلاوتها، وأمرنا باتقائها والحذر منها، وأخبر صلى الله عليه وسلم “أن الميت إذا سار إلى القبر يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله”، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه “ليس لإبن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى، وما لبس فأبلى، وما تصدق فأبقى”، هذا، ولقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرون من الدنيا ويخافون أن تعجل لهم بذلك حسناتهم، ففي الصحيحين عن سيدنا خباب ابن الأرث (ض) قال: “هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير (ض) قتل يوم أحد وترك بردة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهذبها”، وفي صحيح البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال أتي عبد الرحمن بن عوف (ض) بطعام وكان صائما فقال: “قتل مصعب بن عمير وهو خير مني وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير مني فلم يوجد له كفن إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتها في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي ولم يتناول من الطعام شيئا”. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوبة، ويوقظ قلوبنا من الغفلة، ويجعلنا من الشاكرين للنعمة، الخائفين من النقمة، من “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له، عباد الله، من اتقى الله فاز برضى مولاه ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد فيا أيها الإخوة المسلمون والمسلمات، تأملوا إخواني في حالكم ماضيا وحاضرا، وانظروا إلى مابسط الله عليكم من الدنيا وزينتها، كم تأكلون من أصناف الطعام، وكم يعرض أمامكم من أنواع الفواكه والنعم؟ وكم تلبسون من من فاخر الثياب؟ وكم تركبون من السيارات المتنوعة الأشكال؟ وماذا تسكنون من القصور والفيلات والدور ذات الطبقات؟ وماذا ترقدون عليه من الفرش الوثيرة؟ وماذا تجلسون عليه من المقاعد الناعمة؟ وماذا ترصدون من الأموال الضخمة؟ ثم انظروا ماذا تقدمون للآخرة؟، إن ما بسط على هؤلاء الصحابة الذين سمعتم كلامهم من الدنيا قليل جدا بالنسبة إلى ما بسط عليكم منها، وما قدموه للآخرة من الأعمال الجليلة ليس عندكم منه إلا أقل القليل إن كان عندكم منه شئ، ومع ذلك خافوا أن تكون حسناتهم عجلت لهم فبكوا حتى تركوا الطعام، فجمعوا بين إحسان العمل والخوف من الله عز وجل، ونحن جمعنا بين الإساءة وعدم الخوف من الله، نتمتع بنعم الله، ونبارز الله بالمعاصي، كأننا لم نسمع قول الله عز وجل: “فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون”، ولم نهتم بقوله صلى الله عليه وسلم: “ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى أن تبسط عليكم النعم فتكفروها كما كفرها من كان قبلكم”. الدعاء.