مداخلة مولاي إسماعيل بصير بـعنوان : ” حاجة أهل التصوف إلى تجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا الأمة المعاصرة في وقتنا الحاضر “
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
السيد والي صاحب الجلالة على جهة بني ملال خنيفرة، وعامل إقليم بني ملال المحترم.
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم أزيلال المحترم.
السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم الفقيه بن صالح المحترم.
السيد رئيس الجهة المحترم.
السادة رؤساء المصالح الخارجية المرافقين للسيد رئيس الجهة وللسيد الوالي وللسادة العمال كل واحد باسمه وصفته ورتبته.
السادة العلماء والشيوخ والأساتذة والأكاديميون المشاركون في أعمال هذه الندوة العلمية الدولية من داخل المغرب وخارجه.
السادة رؤساء المجالس العلمية المحلية المحترمون والأعضاء المرافقون لهم.
السادة شيوخ وأعيان وأحباب عشيرة آل البصير من القبائل الصحراوية وكل من لبى دعوتنا من أقاليمنا الجنوبية الغالية.
السادة البرلمانيون والمنتخبون،
السادة مقدَّمو فروع الطريقة البصيرية ومريدوها،
السادة رجال الإعلام والصحافة.
أيتها السيدات، أيها السادة الحضور الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
بداية، يشرفني ويسعدني أصالة عن نفسي ونيابة عن كافة أهل البصير ومريدي الطريقة البصيرية ومقدميها وأساتذة مجموعة مدراس الشيخ سيدي إبراهيم البصير للتعليم العتيق وطلبتها، أن أرحب بجمعكم العظيم في هذه الزاوية العامرة بالله، وأرحب بكل من أتانا ليشاركنا أعمال هذه الندوة العلمية الدولية التي ننظمها تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، والتي تخلد للذكرى السابعة والأربعين لانتفاضة سيدي محمد بصير الشهيرة بمدينة العيون، واسمحوا لي باسمكم جميعا أن أرحب بشكل خاص بالسادة العلماء والأساتذة المبجلين الذين استجابوا لدعوتنا مشكورين، وقدموا إلينا من دولة موريتانيا، الجزائر، ليبيا، تونس، ساحل العاج، بوركينافاسو، السينغال، السودان، تشاد، كينيا، تنزانيا، نيجريا، غينيا، لبنان، اليمن، وفلسطين، الأردن، مصر، تركيا، إيطاليا، بريطانيا، إيطاليا، ألمانيا، وباكستان، جزاهم الله عنا كل خير آمين، وإن نسيت لا أنسى أن أقول مرحبا، وألف مرحبا لاحد لها ولاحصر، لإخواننا وأبناء عمومتنا من أهل الصحراء المغربية، الذين وصلوا رحمهم وأبناء عمومتهم في جبال الأطلس المتوسط قلب المغرب، وصلهم الله بكل خير.
أيتها السيدات، أيها السادة الحضور الكرام،
ففيما يتصل بذكرى الفقيد سيدي محمد بصير، اخترنا تنظيمها اليوم وتقديمها ببضعة أيام عن يوم الذكرى، لأن يوم السابع عشر من يونيو القادم سيصادف شهر الصيام والقيام، ودعوة جمع من الضيوف كجمعكم هذا لن يتيسر في تلكم الأيام الفضيلة، لذلكم اخترنا تقديمها عن موعدها لنشرف بمجيئكم وتكريمكم لهذا المجاهد العظيم، على أن نخلد ذكراه في موعدها بحول الله تعالى بما تيسر لنا في حينه.
وبخصوص قضية الاختفاء القسري التي تعرض لها الزعيم سيدي محمد بصير منذ أكثر من سبعة وأربعين عاما، فإن عائلة آل البصير لازالت تتابعها بجدية بالغة مع بعض أصدقاء الزاوية بالبرلمان الأوربي، ومع مجموعة العمل الأممية للاختفاءات القسرية بجنيف، التي راسلت الدولة الإسبانية منذ أكثر من سنة دون جواب يذكر، وأمددناهم مؤخرا بشهادات توثيقية حول اختفائه القسري لكل من السيد أحمد رحال والسيد ميغيل أورتيز والسيد فرانسيسكو بيلدا والأستاذ السيد رفائيل، ووعدتنا مجموعة العمل الأممية بمراسلة الدولة الإسبانية بمضمون هذه الشهادات، والذي يشجعنا ويقوينا بخصوص هذا الموضوع، هو هذه الرعاية السامية المتواصلة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، لذكرى الفقيد محمد بصير، والتي عرفت به وبقضيته على أكثر من صعيد، ولولا ذلك لكان هذا الملف سيطويه الزمان ويلفُّه النسيان، وبهذه المناسبة المحجلة نشكر صاحب الجلالة الملك محمد السادس الشكر الجزيل ونبارك خطوات جلالته السديدة الناجحة ومواقفه الحكيمة الحازمة، وديبلوماسيته الفعلية التي مكنت بلادنا من الفوز على أكثر من صعيد.
وفيما يتصل دائما بقضية الزعيم محمد بصير، أقول: بأن الطريقة البصيرية، وفت بوعدها الذي وعدت السنة الماضية، وهي تخلد ذكرى مرور مائة سنة على تأسيسها ببني اعياط بأزيلال، حيث أسست “مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام”، التي تضم في عضويتها عددا مهما من العلماء والأكاديميين والباحثين من الذكور والإناث، فاق عددهم اليوم الثلاثين عضوا، ومن أهم مهامها متابعة قضية الاختفاء القسري لمحمد بصير، كما أن مجلسها الأكاديمي سيصدر قريبا مجلة باسم “مجلة الشموع” إحياء لاسم تلكم المجلة التي كان الفقيد يصدرها بالدار البيضاء بعد رجوعه من المشرق العربي، واعلموا أن الباب مفتوح في وجه كل من أراد الانضمام لعضوية المؤسسة من داخل المغرب وخارجه، ولكل من أراد أن يقدم شيئا لمساعدتنا من أجل الضغط أكثر على الدولة الإسبانية في موضوع الاختفاء القسري للزعيم محمد بصير.
أيتها السيدات، أيها السادة الحضور الكرام،
ننظم اليوم هذه الندوة العلمية الدولية بشعار:” تجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا الأمة المعاصرة “، والتي ستتدارس في برنامجها الحافل، وخلال خمس جلسات علمية، محاور عدة، تتصل بداية بصاحب الذكرى المجاهد سيدي محمد بصير، و بعناية إمارة المؤمنين المغربية بالطرق الصوفية، كما ستتناول مواضيع أخرى متصلة بتشخيص حالة التصوف الراهنة في العالم، وأخرى حول تجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا الأمة المعاصرة .
أيها الإخوة الأكارم، مداخلتي التي أتقدم بها مفتتحا أعمال هذه الندوة المباركة موسومة بـ :” “حاجة أهل التصوف إلى تجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا الأمة المعاصرة في وقتنا الحاضر”، وهذا الموضوع يحتاج إلى مثل هذه الالتفاتة في الوقت الراهن وفي كل وقت، وهو موضوع نريد منه -بحول الله تعالى- أن يفتح ورشا للتواصل ومجالا للنقاش حوله بين شيوخ الطرق الصوفية والزوايا ومريديها العلماء العاملين، وغيرهم من مؤسسات ومراكز المعرفة في عالمنا الإسلامي، خاصة إذا علمنا ما اعترى التصوف الإسلامي اليوم من تراجع ملموس وبعد عن الأخذ من معين القرآن والسنة سواء على مستوى الفكر أو الممارسة، وبعد عن المنهج الصوفي الذي سنَّه أسلافنا رحمة الله عليهم، وهذا للأسف الشديد هو حال الكثير من الطرق الصوفية في العالم الإسلامي والغربي، حيث أدخلت ممارسات بدعية منافية لما جاء في المصدَرين الأوَّلين للتشريع، ومنافية للمسلك الأصلي الصريح لسلفها الصالح، مما كان سببا في جلب الانتقاد لكل منتسب لأهل التصوف، ويزداد هذا الأمر تأكدا في العصر الراهن نظرا لما تعانيه الأمة الإسلامية من تحديات مختلفة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أمثال هذه الملتقيات العلمية تُذكِّر شيوخ الزوايا ومريديها ومَن في حكمهم بواجبهمُ الأوَّل اتجاه التصوف وقضايا الأمة.
والغرض من مداخلة العبد الفقير ليس الانتقاد، وإنما بيان مدى حاجتنا الملحة لتجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا أمتنا، بتشخيص حالة التصوف الإسلامي في أيامنا هذه، وذلك بإبراز جوانب القوة وجوانب الضعف، بضرب أمثلة من تجليات هذا الواقع، والقصد هو النهوض بالتصوف السني من جديد وفق أصوله الصحيحة، باعتباره مدرسة لتربية الرّوح، وتزكية النفس، وتطهير القلب، وهذا يحتاج إلى قليل من المراجعة والتجديد وربط حاضر هذه الأمة بماضيها.
اسمحوا لي أيها الحضور الكرام من خلال هذه المداخلة أن أذكر ببعض تجليات الحاجة إلى تجديد الفكر الصوفي، فأهل التصوف الصادقين كان ديدنهم بين الحين والآخر الوقوف مع ذواتهم من أجل محاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبهم غيرهم، ونقد ذواتهم النقد الذاتي البناء، وتبعا لذلك أقول:
إن مما يلفت الأنظار اليوم بشكل منقطع النظير، هو كون التصوف الإسلامي أصبح يستقطب تحت كنفه الكثير من المسلمين في جل بقاع العالم في الغرب الإسلامي والقارة الإفريقية والمشرق العربي وبلاد الغرب، وقامت غالبية هذه الطرق الصوفية عبر العصور بأدوار مختلفة وطلائعية في مجتمعاتها التي تنتمي إليها، وتنوعت هذه الأدوار، فهمت الجهاد في سبيل الله وحراسة البلاد الإسلامية ورد هجمات الأعداء، وعبادة الله حق العبادة، والتفقه في الدين وذكر الله عز وجل، وكانت زوايا الصوفية ورباطاتهم ومساجدهم تأوي الواردين وتطعم المحتاجين بالمجان، وعلموا الشريعة ومختلف العلوم في المدارس التابعة إليهم، وقاموا بأدوار أخرى نموذجية كالإيواء والتطبيب والعلاج والوساطة والصلح وأداء الديون على المعسرين وتصحيح السلوكات الاجتماعية المنحرفة، وترسيخ الهوية الوطنية لدى المواطنين، وتفاعلوا بشكل إيجابي مع الحياة السياسية لبلدانهم، فهذه هي أهم الأدوار الطلائعية التي قام بها أهل التصوف أيام تألقهم، ويمكن أن يقوموا بها في أي وقت، وخاصة في أيامنا هذه، حيث توافر لنا من الأسباب والوسائل مالم يتوفر لسلفنا، فماذا وقع لبعض الطرق الصوفية ولبعض الزوايا حتى افتقد إشعاعها وحضورها ؟ وماهي تجليات الحاجة إلى تجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا الأمة؟
أيتها السيدات والسادة، إنه كلما حل يوم جديد، كلما ابتعد أهل التصوف عن معينه الصافي، لأن التصوف الذي نراه اليوم من بعض المنسوبين إلى الصوفية، قد ابتعد عن معايير العقل فضلاً عن الوحي، وأسقط الشريعة من الاعتبار، فأضاع أصحابُه اللبَّ واهتموا بالقشور، وهذا واقع يحتاج إلى نقد وتفكيك ومواجهة علميّة، لهدم بنيانه المؤسَّس على باطل.
وعندما نطلع على سير أهل التصوف رحمة الله عليهم عبر العصور، نجدهم دائما وأبدا عبروا عن حاجتهم إلى تجديد الفكر الصوفي، اسمعوا لما يقوله الإمام عبد الكريم القشيري (ت 465هـ) عندما كتب رسالته الشهيرة في علم التصوف سنة سبع وثلاثين وأربعمائة للهجرة (437هـ)، يقول: ” ثم اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرُهم ،كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
وقد حصل الضعف في هذه الطريقة، لا بل اندرست، وقد مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقلَّ الشباب الذين كان لهم بسيرهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطُوي بِساطُه، واشتد الطمع وقَوِي رِباطه، وابتعدت عن القلوب حُرمة الشريعة، فعَدُّوا قلَّة المبالاة بالدِّين أوثقَ ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، كما استخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة، ومضوا في ميدان الغَفْلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات والارتفاق (الاستعانة) بما يأخذونه من السُّوقة (الرعية من الناس ) والنساء وذوي السلطان …” وقال أيضا سيدي أبو مدين الغوث رحمه الله: (ت580هـ) :
واعلم بأن طريق القوم دارسة وحال من يدعيها اليوم كيف ترى
فإذا كان هؤلاء، وهم من شهد لهم القاصي والداني بصلاحهم وقربهم من الله يقولون هذا الكلام عن التصوف وأهله في حوالي القرن الخامس والسادس الهجري، فماذا عسانا نقول اليوم عن متصوفة هذا العصر؟ سؤالٌ آخرٌ ملحٌّ وهو: ما موقع التصوف الإسلامي اليوم من حال أولئك المسلمين المخلصين الصادقين الذين كانوا يعبدون الله وكأنهم يرونه؟
إن التصوف في أيام الناس هذه، رَأَسَه بعض المشايخ المحترفين، الذين صيَّروه حرفة، وغدا شأنه في ذلك كشأن السلع التجارية الأخرى، حيث أصبح التعامل به سلعة تجارية رابحة، هذا النوع من المشايخ يظهر من خلال تصرفاتهم أنهم تنقصهم التزكية، فكيف سيزكُّون غيرهم من تلامذتهم ومن يتَّبعهم من مريديهم؟، ومنهم الذين تنقصهم الأهلية العلمية والكفاية وتزكية الشيوخ لهم، ولا يتوفرون على سند الطريقة التي نصبوا أنفسهم شيوخا لها، فقد رَأَسَ التصوفَ اليوم بعض الناس الذين لا علم لهم بالقرآن والسنة وأحكام الشريعة، يرون مريديهم متلبسين بالبدع والخروج عن السنة في مجالسهم ولا ينكرونها.
ومن آفات التصوف في الوقت الحاضر بعد المنخرطين في حقله عن الاستقامة واهتمامهم بالكرامات والرؤى والمنامات، والكلام حول المقامات وادعاء كل ذلك، في حين إذا اختبرتهم في كيفية الاحتراز من النجاسات والقيام بالعبادات تجدهم للأسف الشديد كالخشب المسندة، ويرحم الله الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه (ت 1239هـ) شيخ الطريقة الدرقاوية الشاذلية بالمملكة المغربية، الذي كان لا يقبل المريد مريدا لديه حتى يختبره في أمور الطهارة والصلاة، فإن اجتاز الاختبار قبله و إلا صرفه حتى يتعلم، كما أن منهم من يعيش تناقضا واضحا في علاقته بربه وبدينه وبالناس، تجده بين يدي شيخه ومع إخوانه المريدين يظهر كالملاك قولا وفعلا، وإذا كان مع غيرهم لا يعكس إلا صورته الحقيقية المضادة.
وبعض الشيوخ بدل أن يقوموا بتوعية أتباعهم ونصحهم لما فيه النفع، يقتصر دورهم على أن يجلهم الناس ويقبلوا أيديهم بل أرجلهم، ويحملوا إليهم نفيس أموالهم عسى أن يقابلوهم ويحظوا منهم بنظرة، وإذا حصل وقابلوهم وقبلوا أيديهم، أو كلموهم فكأنما سيقت إليهم الدنيا بحذافيرها، فأي جهل وأي ضلال مبين أعظم من هذا ؟، وهل هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أصحابه ؟ وهل هكذا كان واقع الحال عند سلف هذه الأمة من الشيوخ في معاملتهم لتلامذتهم وأصحابهم ؟ .
بعض مجالس أهل التصوف أصبحت كلها صياح وضجيج، وكلها محاباة ومجاملات وحركات رياضية اختيارية تنافي ما عرف عند أهل التصوف بالوجد والحال الاضطراري، كما غابت فيها دروس العلم والمذاكرة، والمشكلة الأطم تتجلى في وجود فئة مثقفة في شكل مريدين تُسْلم نفسها وتستسلم وسط هذا الواقع المليء بالبدع، ولا توجه أو تنصح أو تقول كلمة حق وكأنه لا مشكلة.
يكاد ينحصر هم بعض الشيوخ المحترفين في هذا العصر أن يصير لهم العدد الأكبر من الأتباع، خاصة من الذين لهم مراكز ثقافية وسياسية، ومن ذوي الغنى في المجتمع، ويُعدُّ عندهم مفخرة أن يتحدث عنهم الناس في المجلات والجرائد والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت، ونسي هؤلاء أن الصوفية رضي الله عنهم يعملون بإخلاص وتفان ونكران ذات ويتبرؤون أول ما يتبرؤون من حب الظهور والرياء، نعم إذا كان ذلك بدون سعي إليه وبقصد نفع الناس، أما إذا كان ذلك بسعي إليه وسابق إصرار وبدافع الغَلَبة والظهور فلا، والقاعدة عند العلماء الربانيين في هذا الأمر هي: ما جاءك من غير مسألة ولا استشراف نفس فاقبله، فإنه من فضل الله عليك.
وكثر خروج المريدين عن مشايخهم وادعاؤهم المشيخة والبركة، فغدا كل مريد جديد بين عشية وضحاها شيخا جديدا طالقا لحيته مرخيا عمامته مدعيا مقامات الرجال وهو حصرم، كما كثر التنافس المذموم والتباغض بين بعض الشيوخ المحترفين حول أفضلية طريقتهم على غيرهم، وتنازعوا من أجل ذلك، مع العلم أن الطريق طريق الله، والأنوار لايعارض بعضها بعضا، والذي يتعارض هو النور والظلمة، ومنهم من لا يقبل الجلوس مع إخوانه من أهل الطرق الأخرى أو حتى مبادلتهم بالزيارة، ولله در سيدي محمد بن علي التادلي المغربي رحمه الله الذي يقول:
لا تفرق في الطريقة واجمعن فالفرق علة يا مريدا للحقيقة خيرنا من يتق الله
لا تقل شيخي أفضل أو تجاوب من يفضل قل بحال هو أعدل كلهم دلوا على الله
والأكثر من ذلك، فإن بعض الورثة الذين لا هم لهم في استمرارية طريقة أو زاوية والدهم أو جدهم، وليس لديهم وعي كامل بأهمية طريق التصوف، حولوا زوايا شيوخهم وزوايا آبائهم وأجدادهم والطرق التي ينتمون إليها إلى مورد للعيش، فجعلوا صندوقا بجنب ضريح شيوخهم وأسلافهم ليضع فيه الزائرون إكرامياتهم وأموالهم، وبنوا بيوتا للكراء لكل من يريد المبيت بالزاوية، فقصدها السياح و الفسَّاق والزنادقة من كل فج، وخرجت بذلك بعض الطرق الصوفية عن مقاصدها الأولى، أضف إلى ذلك التنازع على المشيخة بعد وفاة شيخ الطريقة، أو التنازع على أملاكها، التي غالبا ما يقتسمها الورثة فيما بينهم وتبقى الزاوية قاعا صفصفا، مما ينعكس سلبا على أمور كثيرة من أمور الطريقة، ومن ذلك إخلال الخلف بجانب الضيافة والإطعام وعدم عنايتهم بالعلم والتدريس والانخراط الإيجابي في هموم المجتمع وقضايا الأمة.
وفي بعض البلاد من العالم الإسلامي، يلاحظ أن المشايخ تحاط بهم هالة كبيرة من قبل مريديهم، فالمريد المسكين لا يمكن أن يرى شيخه كلما أحب وأراد، بل إن موعده معه هو المجلس الأسبوعي الذي يعقد للدرس والذكر، ولا يمكن أن يتردد عليه في بيته لينتفع به عن قرب ليتحقق معنى الصحبة، وبالجملة فإنه لا يستطيع الوصول إليه نظرا لما يحيط به من الحراس والخدم.
والأكثر من هذا، لا تجد المريد يتحدث عن شيخه إلا بأنه قطب الزمان وأنه الشيخ الحي وأنه صاحب الوقت وغيرُه من الأولياء والصالحين تحت قدمه، وكلام الشيخ عندهم كأنه وحي منزل لا يناقش ولا يرد عليه، ويعجبهم كثيرا التحدث حول المغيبات، كقرب ظهور المهدي ونزول عيسى عليه السلام وغيرها من الأمور، وتجد بيوت وزوايا بعض الشيوخ ملأى بما يعرف عندهم بالأركيلة، يوزعها المريدون فيما بينهم، بعد تحضير الفحم والجمر، ويظلون ينفخون على بعضهم البعض إلى أن يمضي الثلث الثاني من الليل.
هذه أمثلة لما آل إليه حال التصوف في العالم الإسلامي، أما في العالم الغربي، ورغم أن للتصوف أفضاله العديدة في دخول الجم الغفير من الناس إلى الإسلام عن طريقه، فإن الكثير منهم لا يزال يظن أن التصوف لا علاقة له بالشريعة الإسلامية، وأنهم يمكن أن يمارسوا التصوف دون القيام بأركان الإسلام الأخرى كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها، وكأن التصوفَ شيء والإسلامَ شيء آخر، ووجد من الشيوخ والعلماء التابعين لهم من يتتبع رخص المذاهب، وقدموا تنازلات عديدة على حساب الدين ظنا منهم أن هذا هو معنى اليسر في الإسلام.
ومنهم من يخلط التصوف برياضة اليوغا ويظنون أن للتصوف علاقة بذلك، ومنهم من يأخذ الغربيين في نزهات سياحية إلى بعض المناطق النائية في العالم ويوهمهم بأن هذا هو معنى الخلوة عند أهل التصوف، وكل ذلك طبعا بمقابل مادي.
وكثرت المجالس التي تنسب للصوفية في الديار الغربية والتي يجلس فيها النساء جنبا إلى جنب مع الرجال،لا بل إن هذا الأمر أصبح يحصل أيضا في بعض الطرق الصوفية المحسوبة على البلدان الإسلامية، ولم ينكر عليهم أحد.
إن الأولى بالمنتسبين إلى التصوف، أصحاب الشأن اليوم في جميع أنحاء المعمورة، أن يستغلوا ما أتيح لهم في هذا العصر من فضل الله عليهم، مما لم يتح لغيرهم ممن سبقهم، ويرجعوا به إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليجعلوا مريديهم أكثر عبودية لمولاهم والتجاء إليه، ويقتحموا بشجاعة مامكنهم الله به من وجاهة ليحضروا بشكل إيجابي في مجتمعاتهم وينفتحوا على قضايا أمتهم ويصدروا نفعا حقيقيا للناس، كل في مكانه الذي أقامه الله فيه، وأن يعملوا على إحياء كل الأدوار التي قام بها أهل التصوف عبر العصور، وبدون ذلك لا يمكن للتصوف اليوم أن يقدم خدمات جليلة، أو أن يقوم بأدوار كبرى تذكر، فالمشكلة ليست في التصوف ذاتِه، وإنما في المتطفلين عليه الذين نَسبوا أنفسهم إليه.
وإذ أقول هذا الكلام لا أنكر وجود القلة من العلماء الصادقين والشيوخ البررة المتواضعين الخائفين الوجلين المجددين في المشرق والمغرب والغرب وإفريقيا، الذين يهتمون بتزكية النفس والسمو بالإنسان وجعله مؤمنا صادقا ربانيا في كل أحواله، يكادون يعدون على رؤوس الأصابع.
وقبل أن أختم أحب أن أنوه بإعادة هيكلة الحقل الديني بالمملكة المغربية في أيامنا هذه، والذي كانت له نتائج وثمرات محمودة انعكست إيجابيا على واقع التدين في المغرب، جعلت منه نموذجا يحتدى ومطلوبا للاقتفاء من كثير من دول العالم الإسلامي، والذي نأمله تبعا لذلك هو أن يكون هنالك تدخل شجاع مماثل بإعادة النظر فيما آل إليه حال الكثير من الطرق الصوفية والزوايا، لتعود بحول الله للقيام بأدوارها الحقيقية في المجتمع المغربي، وذلك هو المأمول.
ختاما أشكر السيد والي ولاية بني ملال خنيفرة وعامل إقليم بني ملال، والسيد رئيس الجهة على تنسيقهما ومتابعتهما لأمر هذا اللقاء وحرصهما على نجاحه، وأشكر الشكر الجزيل مع الاعتراف بالجميل للسادة عاملي صاحب الجلالة على إقليم أزيلال والفقيه بن صالح على تفضلهما باستضافة فعاليات هذا اللقاء بأقاليمهما وعلى دعمهما الدائم لأنشطة الزاوية، وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعون والحفظ، وأن يجعلهم عند حسن ظن مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي نسأل الله تعالى أن يكلأه بعين عنايته ويوفقه لما فيه خير وسعادة المغاربة وتنمية المغرب والحمد لله رب العالمين.