وثيقة المطالبة بالإستقلال واجتماع الكلمة على نفع الأمة
وثيقة المطالبة بالاستقلال واجتماع الكلمة على نفع الأمة
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد، فيا عباد الله، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يارسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال:”لاتستطيعونه”، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول: “لاتستطيعونه”، ثم قال: “مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله”.نستفتح بهذا الحديث العظيم لنذكر ما أعد الله تعالى للمجاهدين الذين جاهدوا من أجل إخراج المستعمر من بلادنا في فترة من الفترات، رحمهم الله وأغدق عليهم فضله ورضوانه.
عباد الله، بين الحين والآخر تحل بعض الذكريات التاريخية الوطنية الغالية وتستدعي منا الوقوف عندها لتذكرها، وتذكر أولئك الرجال الذين صنعوها، وأولئك الرجال الآخرون الذين التفوا من حولهم لتحقيق مختلف الأهداف التي تسرهم وتسر مجتمعهم وبني قومهم ووطنهم، فلولا تضحيات هؤلاء في ذلكم التاريخ ما كنا لننعم بالأمن والاستقرار ومختلف النعم التي نرفل فيها اليوم، ولولا جهادهم ضد الاستعمار الأجنبي لما استطعنا أن نفخر بدولة اسمها المملكة المغربية لها حضارتها وثوابتها ومكانتها بين أمم العالم. فمن لا تاريخ له لا حاضر له ولا مستقبل له كما يقال.
عباد الله، في يوم الحادي عشر من يناير من كل سنة نستحضر إحدى أبرز الذكريات الوطنية التي يزخر بها تاريخنا المعاصر، ألا وهي ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي تقدم بها العديد من المواطنين والمواطنات الأبطال الشجعان سنة 1944م، لتكون بداية للمطالبة بحصول المغرب على استقلاله، وكانت هذه الوثيقة بحق حدثا تاريخيا أوقد الحماس الوطني، وغدى روح النضال الذي خاضته إمارة المؤمنين والشعب المغربي من أجل الاستقلال والحرية، حيث تعددت الخلايا السرية في صفوف المواطنين، وتوج عملها بتقديم عريضة المطالبة بالاستقلال، مذيلة بتوقيعات أربعة وستين وطنيا من مختلف أنحاء الوطن.
ولقد ساهمت هذه الخطوة الجريئة في تحطيم الوجود اللامشروع للاستعمار الفرنسي بالمملكة المغربية، التي تمتعت دائما كما تقول الوثيقة التاريخية بحريتها وسيادتها الوطنية وحافظت على استقلالها طيلة قرون خلت، وكان رد السلطات الفرنسية عنيفا حيث طال الاعتقال بعض موقعي الوثيقة ورموز الحركة الوطنية، الشيء الذي أدى إلى اندلاع انتفاضة التاسع والعشرين من يناير 1944 والتي اتخذت شكل مظاهرات عارمة تأييدا للوثيقة واستنكارا لحملات الاعتقال والقمع ضد الوطنيين.
يقول أمير المؤمنين الحسن الثاني رحمه الله في كتاب انبعاث أمة عن هذا اليوم: ” هناك تاريخ مضبوط ظل عالقا بذاكرتي هو 29 يناير 1944م، في ذلك اليوم اكتسح جمهور من المتظاهرين شوارع الرباط مرددين شعارات المطالبة بالاستقلال، وبلغني صدى هذه المظاهرات وأنا داخل المعهد المولوي، فتخطيت سوره والتحقت بالمتظاهرين”، وأضاف قائلا رحمه الله: “لقد ترك يوم 29 يناير بصماته بعمق ذاكرتي، كان معي يومئذ ثلاثة من رفاقي في المعهد، وكنا نصيح بصوت واحد: سنحصل على الاستقلال”.
وهكذا يظهر أنه كما شارك أمير المؤمنين محمد الخامس رحمه الله في الجهاد ضد المستعمر، شارك كذلك ولي عهده آنذاك أمير المؤمنين الحسن الثاني طيب الله ثراه، وتبعهم على نفس الخطى الشعب المخلص في كل بقعة من بقاع المغرب، الذين تظاهروا وعبروا عن غضبهم وجاهدوا بكل ما يملكون للوصول بمطالبهم للمنتظم الدولي. نسأل الله عز وجل أن يجزيهم عن المغرب والمغاربة كل خير، وأن يذخر لهم جهادهم ضد المستعمر أجرا حسنا يمكثون فيه أبد الآبدين، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد، فيا عباد الله، إذا تأملتم بعمق في هذا الحدث التاريخي الهام الذي شهدته بلادنا في الأربعينات من القرن الماضي، تجدون بأن مجموعة من أبطال هذا الوطن صنعوا الحدث، والتف الجميع مباركا جهودهم، فبارك الله في صدقهم وفي إخلاصهم وجهادهم فنال المغرب استقلاله سنة 1956م، بمعنى أنه اجتمعت كلمتهم على تقديم النفع لوطنهم في فترة صعبة جدا، وهي فترة الاستعمار، مع فقرهم وقلة ذات أيديهم وضعف إمكانياتهم، وعدم وجود مؤسسات تؤطرهم، وبنيات تحتية تساعدهم، وبالجملة كثرة الإكراهات التي تحوم من حولهم.
عباد الله، فأعظم درس نتعلمه من أمراء المؤمنين ومن آبائنا وأجدادنا الذين سبقونا ونحن نعيش ذكرى هذا الحدث، وهو كيف ينفع أحدنا وطنه ومجتمعه في أيامنا هذه، خاصة أنه توفر وتيسر لنا كل شيء مما لم يتيسر لهم. تيسرت لنا بحمد الله أمور كثيرة بسبب تضحياتهم وإخلاصهم وصدقهم في خدمة وطنهم.
نعم عباد الله فهذا هو الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه اليوم، كيف ننفع وطننا ليخطو خطوات إلى الأمام في درب التنمية والنهضة لتنتفع الأجيال القادمة، وذلك بأن نضم جهودنا إلى جهود جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، الذي لا يألو جهدا في نفع أمته وأبناء شعبه والدفاع عن وطنه. فمنذ أن أولاه الله مسؤولية هذا الوطن وهو يقدم الأشياء الكثيرة لبناء وتقدم الوطن وإسعاد أبناء الشعب، حتى تبوأت المملكة المغربية المكانة التي عليها الآن.
ختاما عباد الله، إن كل مواطن ومواطنة يستطيع أن يقدم الشيء الكثير لوطنه ومجتمعه بدأ من الشعور بالوطنية الحقة المسؤولة اتجاه الوطن، ثم الإسهام في إعداد وتكوين وتربية جيل وطني متعلم متخلق متزن يعول عليه الوطن، فالكل ينبغي أن ينخرط بإيجابية في الحياة والتنمية المجتمعية، أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لذلك وأن يتم علينا نعمه ظاهرة وباطنة وأن يعرفنا إياها بدوامها علينا آمين، والحمد لله رب العالمين.