هدي الدين وتوجيهاته إلى التبين من الأخبار
هدي الدين وتوجيهاته إلى التبين من الأخبار
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، قال الله تعالى في كتابه الكريم:”ياأيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين”، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله يقول:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” فأعرها سمعك فإنه خير يؤمر به أو شر ينهى عنه”، وفي هذه الآية يأمر الله تعالى بالتثبت من خبر الفاسق ومعرفة صدقه من كذبه ليحتاط له، والفاسق هو كل خارج عن طاعة ربه.قال العلماء: والفاسق الكذاب. وقالوا: هو المعلن بالذنب. وقالوا: هو الذي لايستحي من الله.وبالجملة فالذي يكذب ولايتحرى الصدق والمعلن بذنبه ومن لا يستحي من ربه فهو فاسق خارج عن الطاعة، والمؤمن الصادق في إيمانه يُغلفه الإيمان ويحميه أنْ تصيبه آفات النفوس، فإذا فسق وخرج عن حدود الإيمان وشذَّ عنه أصابته الأمراض المهلكة. وخصص الله تعالى الفاسق بالذكر في الآية؛ لأنه مظنة الكذب، وذلك حتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذاً بها. فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره. وبذلكم يستقيم أمر الجماعة، بحيث لا تعجل في تصرفاتها بناء على خبر فاسق، فتصيب قوماً بظلم عن جهالة وتسرع، فتندم على ارتكابها ما يغضب اللّه، وتجانب الحق والصواب في اندفاع وحماس.
عباد الله، ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جمع زكاة بني المصطلق، روى الإمام أحمد وغيره، عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي رضي اللّه عنه قال: قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول اللّه أرجع إليهم، فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول اللّه رسولاً إبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول ولم يأته، وظن الحارث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سخط عليه لأمر ما، فانطلق مع أعيان قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرفوا الخبر، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بعث إليه الوليد بن عقبة ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق خاف، فرجع حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبعث إلى الحارث رضي اللّه عنه، فلما دخل الحارث على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، قال: فنزلت:” يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ”، الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “التأني من الله والعجلة من الشيطان”.
عباد الله، إن منهج التثبت والتبين قبل إصدار الأحكام على الناس هو منهج قرآني أصيل، فاالله عز وجـل يأمرنا بالتثبت والتبين قبل أن نصدر الأحكام على الناس، حتى لا يحدث ما لا تحمـد عقبـاه، فكثيرا ما تحدث المشاكل بسبب سوء الظن، وبسبب التسرع في الرد وإنزال العقوبـة على الذين يشك في أمرهم، ونحكم ونقرر بشكل خاطئ، قال في آية أخرى:” یَا أيها الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِیلِ اللّه فَتَبَیَّنُواْ”.أي فتأنوا واطلبوا البيان، وكونوا على بينة من الأمر الذي تقدمون عليه، ولا تأخـذوا بالظن ولا بالتهمة وتثبتوا ولا تعجلوا، فإن الله لا يخفى عليه شيء من نيتكم فيه، تطهيرا لقلوبكم حتى ما يكون فيها شيء إلا الله.
عباد الله، إن كثيراً من الأحداث المؤسفة التي تقع في أيامنا هذه من صراعات ونزاعات وفتن وفراق بين الأصدقاء والأسر والقبائل والجماعات، إنما هي بسبب الإشاعات والأكاذيب التي يروجها أهل الشر والفتنة والحسد وأصحاب السرائر والطويات الخبيثة في المجتمع لهدم بنائه وتقويض أركانه، فما أحوجنا إذن لمزيد من اليقظة والتأني والانتباه والحذر الشديد من أخبار الفسقة، خاصة أننا نعيش زمانا كثر فيه أهل الارتزاق بالأخبار وأصحاب الخداع والمظاهر، فقد تنخدع بظاهر إنسان فتأخذ بكلامه، وتبني عليه أحكامـا وأفعالا، وقد تنخدع بخبر زائف كاذب مجانب للحقيقة في موقع إلكتروني أو مجلة أو جريدة عن فلان أوعلان من الناس، ثم يتبين لك فيما بعد التضليل الكبير الذي وقعت فيه بسبب هذا الإنسان الوديع فـي ظاهره، الثعلـب فـي روغانه، أو بسبب ذلك الخبر الكاذب أو المقال المفتري.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لتحري الصدق دائما وأبدا، وأن يرزقنا صحبة الصادقين المتحرين للصدق، وأن يجنبنا الفتانين الفاسقين أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله، قال تعالى: “قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين”، يقول تعالى مخبراً عن كلام نبي الله سيدنا سليمان عليه السلام للهدهد، حين أخبره عن أهل سبأ وملكهم قال: “سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين” أي أصدقت في إخبارك هذا أم كنت من الكاذبين في مقالتك لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك؟، فليكن شعارنا دائما وأبدا:” قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين”.
عباد الله، إنه ينبغي أكثر من أي وقت مضى الانتباه إلى تربية الأبناء على التثبت من الأخبار الهامة، والعمل على متابعة ذلك في صرامة وجدية، بأن لايقولوا إلا الصدق، ولا ينقلوا إلا الصدق، لأن ذلك سيحول بينهم وبين كثير من المشاكل التي تنجم عن تلكم الأخبار الكاذبة.
فعلى المربين والآباء والأمهات، أن يغرسوا في أبنائهم التثبت من الأخبار من الصغر، فإذا جاءك أحد الأبناء بخبر، فاطلب منه أن يصدق فيه بشكل دائم، وأخبره بأنك ستتحقق من صحة الخبر، وبأنه سيعاقب على كذبه في حال كان الخبر غير صحيح، واعمل على تخويفه بـالله وبالعقاب الذي أعده الله للكذابين، والذين ينشرون الأخبار الكاذبة التي تؤدي إلى الفتنة، وبذلكم يمتنع الأبناء عن الأخبار التي لم يتأكدوا منها خوفا من عقاب الله وخوفا من عقاب المربي كذلك. وكذلكم ينبغي أن نفعل في حال جاءنا ابن أو بنت أو صديق أو أي أحد يخبرنا بخبر ما، فليكن شعارنا دائما وأبدا:” قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين”.
وفي الختام أحب أن أذكر لكم ماروي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن أم المؤمنين السيدة مارية القبطية أم إبراهيم، كان لها ابنُ عم يزورها ويدخل عندها، فأغضبه ذلك، وقال لعلي رضي الله عنه: خُذْ هذا السيف واذهب إليه فإنْ وجدته فاقتله. فقال: يارسول الله أنا في أمرك أأقتله؟. أم يرى الشاهد ما لا يرى الغائب؟ تأملوا هنا إلى احتياط سيدنا علي رضي الله عنه، فلما ذهب وجده عند مارية، فهمَّ بسيفه ليقتله، لكن الرجل أسرع إلى نخلة فصعد عليها بحيث لا يناله سيفُ علي، ثم ألقى بنفسه على الأرض، وفتح بين ساقيه حتى بانت لعلي أماكن عورته فرآه علي رضي الله عنه أمسحاً، يعني: ليس له ما للرجال، فكفَّ عنه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر فقال: صدقتَ ياعلي :”يرى الشاهد ما لا يراه الغائب”. ونفهم من هذه القصة أن الذي أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاسقٌ من الفساق أراد الوقيعة والتشهير بأم إبراهيم رضي الله عنها. فلنحتط دائما عند سماع الأخبار أو قراءتها، والحمد لله رب العالمين.