من مقاصد الصيام وحكمته

الدكتور عبد الهادي السبيوي

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي فرض علينا الصيام ، وأمرنا أن نلتزم بشرعه غاية الالتزام
نحمده تعالى أن سلك بنا مسالك الأبرار، ودعانا إلى طاعته بالليل والنهار ، ووعد الصادقين الطائعين النجاة في الدنيا والفوز بالنعيم في دار القرار. ونشكره تبارك  وتعالى  وبه الوثوق، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له هو الخالق وكل شيء سواه مخلوق، شهادة تزيدنا من الله قربًا، وتنمي ما اشتملت عليه جوانحنا إخلاصًا إليه وحبًّا. ما زالت حليفة القلب واللسان، خاتمة قولنا في الدنيا ويوم الفزع ويوم عرضنا على الملك الديان، فتجمعنا بحبيبنا ومن سبقونا في أعلى جنان.ونشهد أنّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق المصدوق، نبيّ دعا لربه ليلاً ونهارًا، وبلّغ رسالته سرًّا وجهارًا، فكان أفضل الخلق صياما وقياما ،. اللهم فصلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الناطق بأفضل منطوق، صلاة لا ينقطع لها مدد، ولا يحصر لها حدّ ولا عدد، وعلى آله وصحبه المؤدين للحقوق، وعلى التابعين لهم بإحسان من سابق ومسبوق.

 

أمّا بعدُ ، عباد اللهِ أوصيكـــــم ونفسي بتقوى الله العزيز الغفّار والسيّرِ على نهجِ النّبيِ المختار والثّباتِ على شرعه إلى الممات، والعمل بعمل الأبرار.

 

أحبتي في الله ،

إنَّ الدين الإسلامي دين مبني – بعد إفراد الله بالعبادة – على الحكمة والخير العميم ، ولهذا لم يشرع ـ سبحانه وتعالى ـ أحكام هذا الدين دون فوائد مرجوَّة ، ومقاصد جليلة ، فإنَّ لهذه الشريعة الإسلامية تكاليف سامية المقاصد ، نبيلة الفوائد ، بديعة الأسرار.ومن المعلوم أنَّ الله من أسمائه ـ سبحانه وتعالى ـ: الحكيم ،ومقتضى هذا الاسم أنَّه متَّصفٌ بالحكمة ،  فكلُّ ما شرعه الله وقدَّره وأمر به فهو لحكمة بالغة.

فهو ـ سبحانه ـ لم يكلِّفنا بالعبادات لأجل الإشقاق علينا ، أو لنكون قائمين بتطبيقها فحسب ، أو لحاجته ـ تعالى ـ لنا، بل إن الله  شرعها ـ تعالى ـ لمصلحتنا وتربيتنا ، لتكون هذه العبادات زاداً لنا على طريق الهدى،وفي هذا يقول الإمام البيضاوي ـ رحمه الله ـ:( إنَّ الاستقراء دلَّ على أنَّ الله ـ سبحانه ـ شرع أحكامه لمصالح العباد) (المنهاج)وتلك الحكم والمعاني السامية لا تفهم إلاَّ بالبحث والاستقراء والتتبع ؛ لما يسمِّيه علماء الإسلام بـ:(فقه المقاصد الشرعية)،    ومن المتيقَّن أنَّ الأحكام إذا ربطت بعللها ومقاصدها اقتنع الناس بها ، وكان لها دورٌ كبير في تأديتها على الوجه اللاَّئق بها ؛ فإنَّ كثيراً من الناس يلتزمون العبادات ، بيدَ أنَّهم قد يفقدون روحها ومعانيها، لعلَّ من أسباب ذلك ضعف علمهم بمقاصدها؛ فيؤدُّون عباداتهم وكأنَّها عادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم ؛ فلا يشعرون بلذَّتها وحلاوتها ولا يستفيدون من القيام بها على الوجه المطلوب. ولهذا كان من المناسب أن أعرِّجَ على ذكر شيء من مقاصد الصوم ، وحِكَمه الباهرة ، وخاصَّة أنَّ أهل العلم كانوا يولون لعلم مقاصد الشريعة مرتبة عالية ، ورحم الله الإمام ابن تيمية حين قال: (من فهم حكمة الشارع كان هو الفقيه حقَّاً) بل إنَّه ـ رحمه الله ـ يرى: أنَّ معرفة مقاصد الشريعة هي خاصَّة الفقه في الدين ،  فمن المهم أن نعقل تلك الحقيقة الربانية ، ونعلم أنَّ من تمام العبودية لرب الخلق والبرية ، أن تكون عباداتنا خالصة لوجهه الكريم ، وعلى سنَّة خير المرسلين محمد بن عبد الله عليه من ربنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، وأن تكون تلك العبادات معينة على زيادة الإيمان ، ليكون لها تأثيرٌ جليٌّ على النفوس والأبدان، وإلا كانت عباداتنا عادات ، وحينها فليخشَ المسلم على نفسه من مشابهة أهل النفاق ، الذين يصلون ويركعون ويحجون ومع ذلك لا يُكتب لهم في رصيد الدرجات حسنات ، بل معاصٍ وسيئات ،وسبب ذلك أن تلك العبادات لم تخالط سويداء قلوبهم، فصيَّرتهم إلى ما صيَّرتهم : كما قال تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18))

 

أحبتي في الله

حديثنا اليوم إن شاء الله  في هذه الجمعة المباركة سيكون عن مقاصد الصوم وحكمه ، فالصوم شرع لمعانٍ سامية، وحكم بالغة ،وفي هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:(والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، شرعه الله لعباده رحمة بهم ، وإحساناً إليهم ، وحمية لهم وجُنَّة) (زاد المعاد )

 

ومن تلكم  المقاصد والحكم:

1 ـ تحقيق التقوى بعبودية الله ـ عزَّ وجل ـ:وذلك لأنَّ الصوم عبادة يتقرب بها العبد لربِّه بترك رغباته  ، وقمع شهواته ، فيضبط نفسه بالتقوى ومراقبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل مكان وزمان ، ولهذا يقول المولى سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) ) البقرة)

فحكمة مشروعية الصيام انه لجام المتَّقين ، وجُنَّة المحاربين ، ورياضة الأبرار والمقرَّبين ، وهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال ، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئاً ، وإنَّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده ،فهو ترك محبوبات النفس وتلذُ ذاتها إيثاراً لمحبَّة الله ومرضاته ، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطَّلع عليه سواه ،وصدق الله ـ ومن أصدق من الله قيلاً ـ حين قال عن حكمة تشريع الصوم:( لعلَّكم تتقون)، فإنَّ من أعظم العبادات التي يتدرب بها العبد على ممارسة التقوى والتكيف معها هي عبادة الصيام، ولأجل هذا صار من أعظم الطاعات وأجل القربات ، ليكون الصائم مقبلاً على الله تعالى ، خاضعاً بين يديه ، ومجاهداً نفسه ومحاسباً لها في تقصيره ، فتكون نتيجة من نتائج التقوى ، وقد قال ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ:(لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه)  وحينئذٍ يرتقي الإنسان لمسالك العبودية ، ومدارج التميز ، لأنَّه حفظ هذه الأمانة ، وجعلها منتصبة تجاه عينيه ، ولذا صار الصيام سراً بين العبد وربه ؛ لأنَّه قد يخلو الإنسان بنفسه فيكون عنده مثلاً شيء من الطعام ، فتتحرك غريزة الأكل لديه ، فيقمعها بسلطان التقوى ، ويلجمها بلجام المراقبة، فإنَّ عبادة الصوم هي عبادة السر.

 

:  أحبتي في الله

يقول الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي الصحيح( الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِى ، ) أخرجه الشيخان.فيكون هذا الترك لأجله ـ تعالى ـ طريقاً موصلاً بنا إلى الجنة ، ومكفِّراً لذنوبنا،  فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »  أخرجه البخاري ومسلم ومعنى إيماناً: أي إيماناً بوجوبه ، ومعنى احتساباً: استشعاراً بالأجر عند ربِّه،  ويكفي أنَّ العبد المؤمن يشعر بصيامه أنَّه عبد لله حقَّاً، فإنَّ كمال الحرية في تمام العبودية لله ، فلا يأكل الإنسان إلا إذا ابتدأ الوقت الذي بيَّنه الله أنَّه وقت للإفطار ، ولا يصوم إلاَّ إذا ابتدأ وقت الصيام ، فهي عبودية كاملة لله ، وأمانة يؤدِّيها العبد لربِّه ، ولهذا يقول المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:((إنَّ الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود . والحقيقة  المؤسفة أنَّ هناك بعض المسلمين يفرِّط في حفظ هذه الأمانة التي استرعاه الله إيَّاها،  فالمسلم  ايها الاخوة ينبغي  له أن يلازم صيامه بتقوى الله في السِّر والعلن ، وأن يكون صيامه على منهاج النبوَّة والسنَّة المحمدية ، ولهذا فمن يفطر بعد صيامه على ما حرَّم الله كمن يفطر على الدخان أو النرجيلة او الحشيش  أو غير ذلك من المسميات الخبيثة ، فإنَّه لا يعتبر ممَّن جرَّه صيامه للتقوى وملازمة مراقبة الله .

 

ومن مقاصد الصيام الجليلة  أيضا أنّ فيه تزكية للنفس وتنقية لها من ا الرذيلة ؛ خاصَّة أنَّه شرع في شهر من خصوصيَّاته تصفيد الشياطين، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين). ولهذا يضيِّق الصوم مجاري الشيطان في بدن الإنسان، -وكما هو معلوم- فإنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما ورد في حديث لرسول الله  إلاَّ أنَّه بالصيام يضعف نفوذه، فإذا أكل المرء أو شرب انبسطت نفسه للشهوات، وضعفت إرادتها، وقلَّت رغبتها في العبادات، فالجوع يكسر الشهوة، ومجرى الشهوات الشيطان، ولهذا كان – عليه الصلاة والسلام – يوصي الشباب بالصوم؛ فيقول -عليه السلام-: (يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنَّه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنَّه له وجاء).

يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: “وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات”وعلى العموم فإنَّ الصوم يسكن النفس الأمَّارة بالسوء، ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها”

أيها الأحبة الكرام اعلموا أن للصوم تأثير  كبير في دفع الشهوات وكسر حدَّتها وعليه فإنَه ينبغي على المرء أن يكون بكليَّته صائماً عمَّا حرَّم الله في شهر رمضان وفي غيره من الشهور؛ أمَّا إذا كان صوم المسلم عن المحرمات في هذا الشهر، ومن ثمَّ إذا أدبرت شمس اليوم الأخير منه، عاد إليها كما لو أنَّ شيئاً لم يكن؛ فإنَّه لا يناسبه إلاَّ ما قاله الإمام أحمد والفضيل بن عياض: “بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلاَّ في رمضان”. فليتَّق الله هؤلاء وليخشوا نقمته، وليعلموا أنَّ ذلك لن ينجيهم من عقاب الله وحسابه، فالحذر كلَّ الحذر من إبطال الصيام بالموبقات، وقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: “الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل”

إخوتي في الله

ومن مقاصد الصيام الجليلة أنَّ فيه تجربة لمعاناة الحرمان والجوع، وتذكُّر الفقراء الذين يقاسون الحرمان أبد الدهر، فيتذكر العبد إخوانه الفقراء وكيف أنَّهم يعانون الأمرَّين من الجوع والعطش .وقد ذكر ابن رجب – رحمه الله – عن بعض السلف أنَّه سئل : “لِمَ شُرِع الصيام؟” فقال: “ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع” ولهذا استحبَّ الشرع تفطير الصائمين المساكين خصوصاً، و حث المسلمين الموسرين عموماً على إطعامهم، والشعور بالتكافل الاجتماعي فيما بينهم، وتوثيق الروابط الاجتماعية لديهم. وليس معنى تفطير الصائم هو أن تعطيه بضع تمرات ورطبات وماء، بل معنى ذلك أن تفطر الصائم وتشبعه كما ذكر الإمام ابن تيمية، حيث قال: “والمراد بتفطيره أن يُشبعه” ويستدل لذلك بما في الحديث المذكور آنفاً. ومن الأحاديث الدالَّة على استحباب تفطير الصائم، قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيء)

 

—- ومن حِكَمِ الصيام؛ أنَّ فيه فوائد صحية كثيرة، وفيه راحة للبدن، وإجازة للجهاز الهضمي لإعطائه فترة من الزمن يستريح فيها من الامتلاء والتفريغ فيحصل له استجمام وراحة يستعيد بها نشاطه وقوته،

—- ومن مقاصد الصيام التحلي بفضيلة الصبر، وتقوية الإرادة، فالصوم من أعظم المدارس التربوية التي تعين المرء على التربي على فضيلة الصبر والمصابرة، كيف وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}(45) سورة البقرة، وقد فسَّر بعض العلماء الصبر المقصود بالآية بأنَّه: الصوم، قال ابن رجب :”فإنَّ الصيام من الصبر، وقد قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(10) سورة الزمر. وحيث أنَّ الصوم مدرسة للصبر، فهو أيضاً مدرسة لتربية الإرادة، وهو الوسيلة الفعَّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش المرء وهو قوي الإرادة، متصلب العزيمة.

—-ومن مقاصد الصيام أيضا ، التدريب على الدقَّة والنظام واحترام المواعيد: ويكفي شاهداً على ذلك قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (إذا أذن بلال فلا تمسكوا، ولكن أمسكوا إذا أذَّن ابن أم مكتوم) والفرق بين أذان ابن أم مكتوم وأذان بلال كما في الحديث: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا)! فلنتأمَّل هذه الدِّقة في كيفية الإمساك عن الطعام وقت الصوم من خلال هذا الحديث، لكي تتربى النفوس على دقة المواعيد، وعلى الاهتمام بالأوقات.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .

 

الخطبة الثانية

الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد:

إِخْوَةَ الإِيمَانِ: يقولُ اللهُ -عز وجل-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 188]. فعمارة المسجدِ على نوعين: عمارةٌ حسِّيةٌ:  بالبناءِ والتَّرميم والتَّنظيفِ وغيْرهِ… وعمارةٌ معنويةٌ: بالصلاة والذِّكْر وقراءةِ القُرْآنِ وحلقاتِ العلْمِ…
ورَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رغَّبَ في ارْتيادِ المساجدِ فقالَ-: “مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ  رواه البخاري].
ونحنُ نُسَرُّ كثيرًا لما نراهُ في بعض النَّاسِ من حرْصٍ على ارْتيادِ المساجدِ، ونحْمدُ اللهَ على ذلك، ولكنْ نسْتاءُ -في الوقْتِ نفسه- لما نراهُ في بعضهم من بُعْدٍ عن آدابِ المسْجدِ وأَخْلاقهِ، ومن نقْصٍ كبيرٍ في معْرفةِ دينهم وفقْههِ… فالمسجدُ -أيها الإخوة المؤمنون- له حُرْمَةٌ خاصَّةٌ يجبُ علينا أن نراعِيَهَا، وله آدابٌ علينا أن لا نفرِّطَ فيها، وذلك حتَّى تتحققَ الرِّسالةُ الَّتي أرادها اللهُ منهُ.

ومن هذه الآدابِ:

تنظيفهُ وتطييبهُ وصيَّانتُهُ من الأقذار والروائح الكريهةِ؛ فقدْ صحَّ في الحديثِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: “أَمَـرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الـدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَسنن الترمذي).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ -أي تكْنسهُ- فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: “فَهَلاَّ آذَنْتُمُونِي؟! فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا “وهذا تكريمٌ للَّذين يشْغلون أنْفُسهم بتنظيف المساجد وتطهيرها.

وعن جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ رواه البخاري]. ويُلْحقُ بذلك كُلُّ ما لهُ رائحةٌ كريهةٌ من المأكولاتِ وغيْرها، وأخصُّ بالذِّكْر هنا رائحةَ الجواربِ التي تنبعثُ من بعض المصلِّينَ، فهي أسوأُ رائحةً من رائحةِ الثوم والبصلِ.
وإنَّ من قلَّةِ الذَّوْقِ، ومن مخالفة قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]، أن يأْتيَ  المصلِّي وثيَّابُهُ متَّسخةً، فلا يُنظِّفُها قبل أن يدخُلَ إلى المسْجدِ، ثمَّ يزاحمُ الآخَرينَ بهذه الثِّياب القذرة، التي ربَّما تنبعثُ منها الرَّائحةُ الكريهةُ.وقد حثَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثَ كثيرةٍ على التطيبِ والاغتسالِ، وذلك ليكون المسْلمُ نظيفَ الجِسْمِ، نظيفَ الثَّوْبِ والظَّاهرِ، كما هو نظيفُ القلبِ والباطنِ.
هذا، وقد حرص الإسلام على تهيئة جو هادئٍ في المساجد للعابدينَ، لكيلاَّ يشغَلَهُم شاغلٌ في مناجاتهم للهِ، وقيامهم بين يديْه، فحَظَرَ رفْعَ الصَّوْتِ في المسْجدِ حتَّى بقراءةِ القرآنِ؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: “أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَـاجٍ رَبَّهُ، فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ -أَوْ قَالَ:- فِي الصَّلاَةِ سنن أبي داود].

وإذا كان من المحظور رفع الصوت بكلام الله في المسجد، فكيف بمن يرفع صوْتَهُ فيها بالجدلِ ولغْو الحديثِ، وبالخصومةِ والمُشاجرةِ، وبالشَّتْمِ والانشغالِ بالقيلِ والقالِ، وبالغيبةِ والحديثِ في أمْر الدُّنْيا، وما جرى لفلانٍ، فالمسجدُ ينبغي أن ينزَّهَ عن كُلِّ هذا .

أيّها المسلمون، ومن التشويشِ والإيذاء الذي عمَّ وطمَّ في مساجدِ المسلمين وقطَعَ عليهم خشوعَهم وسكونهم ما يصدُر من أجهزةِ الجوّال اليومَ من المقاطع الغنائيّة والنغمات الموسيقيّة والأصوات المطرِبَة التي آذت المسلمين أيّما إيذاء، فعَلى كل مسلم يخشى ربَّه ويخاف عقوبتَه أن لا يدنِّسَ بيوتَ الله التي بُنيَت للذكرِ والصلاة وقراءةِ القرآن بهذه النَّغَمات المحرمة والأجراس الشيطانيّة، وعليه أن يسارع  إلى إطفاء جواله حال دخوله المسجد حتى لا ينشغل بغيره عن ربه .

أحبتي في الله اعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاة والسلام على نبيِّهِ الكريم فقال {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على  سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهُمَّ إنّا دعوناكَ فاسْتَجِبْ لنا دُعاءنا فاغفر اللهم لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتوفّنا وأنت راضٍ عنّا، اللهمَّ من أحييته منّا فأحيهِ على الإسلام ومن توفّيتهُ منّا فتوفَّهُ على كاملِ الِإيْمان، اللهمّ لا تدعْ لنا في يومنا هذا ذنّبًا إلا غفرته ولا مريضًا إلا شفيته يا أرحم الرّاحمين اللهم  استُر عوراتنا وآمن روعاتنا واجعلنا من عبادك الصّالحين، اللهُمَّ إنّا نسألك التُّقى والنَّقى والعفافَ والغِنى، اللهُمَّ اجعلنا من عبادك الصّالحين، اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المتخلقين بأخلاق نبيك المصطفى وشمائله العظيمة. اللهُمَّ أكرمنا برؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم في المنام وشفِّعه فينا، اللهُمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميع قريبٌ مجيب الدعوات.
اللهم وفق ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له معينا ونصيرا وأعنه وانصره على أعدائه وأعداء المغرب .

اللهم امدده  من عندك بالصحة و العزم و القوة و الشجاعة والحكمة و القدرة و التوفيق لما فيه مصلحة العباد و البلاد و الأمة الإسلامية قاطبة ، و اجعله لدينك و لأمتك ناصراً ، و لشريعتك محكماً .اللهم ، خذ بيده، و احرسه بعينيك الّتي لا تنام، واحفظه بعزّك الّذي لا يضام. واحفظه اللهم في ولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بأخيـــــــه المولى رشيد وسائر الأسرة العلوية  المجيدة وأيِّده بالحق وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.

.اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن كافة الصحابة من المهاجرين والأنصار وعن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الستة الباقين من العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة،اللهم انفعنا بمحبتهم، ولا تخالف بنا عن نهجهم، يا خير مسؤول ويا خير مأمول..

عباد الله:اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *