من صور لطف الله بعباده اليسر بعد العسر
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، كثيرون هم الذين يختبرهم الحق سبحانه وتعالى، فيبتليهم في أنفسهم أو أجسادهم أو أهليهم وذويهم أو يبتليهم بالفقر وقلة ذات اليد أو يسلط عليهم من أهل الشر والأذى من يذيقهم مرارة العيش، أو غير ذلك من أنواع الابتلاءات والهموم التي يشعر الإنسان خلالها بالعسر والمشقة والضيق والحرج وضنك العيش، ويظن البعض أن هذه الحالة ستستمر بهم إلى ما لانهاية، لكن الحق سبحانه وتعالى له ألطاف خفية لا ندركها، وحِكَمٌ لطيفة نجهلها؛ لذا يكثر فينا اللَّوم والتَّسخُّط، ويقِلُّ فينا الرضا والشكر، قال الله تعالى:” وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ”.
عباد الله، إن التجاء أحدنا بصدق إلى مولاه وخالقه وتوكله عليه واستعانته به ويقينه الأكبر أن منزل الشدة هو نفسه صاحب الفرج ومنزله، ومواجهته لمانزل به بالصبر والأمل في خالقه، سرعان مايقلب حال العسر إلى اليسر، وحال الشدة بحال الفرج.
فالله جل وعلا حكيم في قضائه وقدره، لطيف بنا، عليم بأحوالنا، خبير بمصالحنا، لا يخفى عليه شيء من أمرنا، وواجبنا إذن الرضاءُ بقضائه وقدره، والتسليمُ لأمره، فالله جل وعلا لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرا له؛ إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن كما جاء في الحديث الصحيح، والله جل وعلا يقول:” وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.
عباد الله، يقول الله تعالى في سورة ألم نشرح: “فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا”، والعسر هو المشقة في تحصيل المرغوب والعمل المقصود، واليسر ضده وهو: سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه، وجملة:” إن مع العسر يسرا”، مؤكدة لجملة:” فإن مع العسر يسرا”، وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه، لأنه خبر عجيب. فالعسر الأول هو عين الثاني واليسر تعدد، وقال علماء اللغة: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو نفسه. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وذكر اليسر هنا مرتين، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر في نفس كل مسلم.
ولا شك عباد الله أن الحكم المستفاد من جملة:” فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا”، هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله، فكان التأكيد مفيدا ترجيح أثر اليسر على أثر العسر، وسياق الكلام وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يسر الله له المصاعب كلما عرضت له، فاليسر يلحق كل تلك المصاعب، وفي الآية أيضا بيان لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، قال العلماء: وهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لامحالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة.
وعلى الجملة فالآية تنبيه على أن الله لطيف بعباده، فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر، وإنه لولا ذلك لهلك الناس، قال تعالى:” ولو يواخذ الله الناس بظلمهم ماترك عليها من دابة”، وقال في آية أخرى:” سيجعل الله بعد عسر يسرا”.
روى ابن جرير بسنده عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزلت هذه الآية: “فإن مع العسر يسرا”، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين”. وذكر في سبب نزول هذه الآية عن أنس بن مالك رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا وحياله جحر- أي غار-، فقال:” لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه”، فأنزل الله عز وجل:” فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا”، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله تعالى:” خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين” .
عباد الله، ذكر في موطأ الإمام مالك أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون”.
فكُلُّ كَرْبٍ ينزِلُ بالمؤمنِ فإنَّ مَعَهَ فَرَجًا لا محالة، وكلُّ عُسرٍ يُصِيبُه فإنَّ مَعَهُ يُسرا، ومن عَلِمَ ذلك وأَيقَنَ به فلن يُسْلِمَ قَلْبَهُ لليأسِ والقُنُوط، ولن ينسَى الخالقَ سبحانه ويركَنَ للمخلُوق، ولن يُعَلِّقَ قَلبَهُ بغيرِ الله تعالى، ويؤكدُ ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: “وإن الْفَرَجَ مع الْكَرْبِ وإن مع الْعُسْرِ يُسْراً”، فإذا نزلتِ النوازلُ بالناس، واشتدَّ البأسُ بهم وظنُّوا الهلاكَ، أسعَفَهُمُ اللهُ تعالى باليُسر، ودَفَعَ عَنهُمُ البَلاءَ، ورَفَعَ عنهم المحنة. فاللهم بأفضالك وألطافك الخفية ارفع الشدة والضيق والحرج والعسر عنا وعن المسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، إنَّ تَتَبُّعَ حوادثِ اليُسرِ بعد العُسرِ يطُول ويطول، وتتبع قصص الفرج بعد الشدة يطول ويطول أيضا، فالقرآن مليء بقصصها وأخبارها وكتب التاريخ والسير أيضا، بل إن في العلماء المسلمين من ألف تأليفا خاصا بعنوان:” الفرج بعد الشدة”، في عدة مجلدات ذكر فيه قصصا عجيبة للناس وقد فرج الله عنهم بعد الشدة التي عانوها وقاسوها.
وإن الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر سنةُ الله تعالى مع كل الناس وبخاصة رُسُله وأوليَائهِ من المؤمنين، فقد ابتلى الله يوسف عليه السلام بعسر شديد، ومحن متتابعة، حيث حسده إخوته، وألقوه في الجب، ثم بيع عبدا، ثم اتهم في عرضه وسجن ظلما، فأخرج الله من رحم هذه الشدائد والمحن المتتابعة فرجاً كبيراً، وتمكيناً عظيماً، فَوَلِيَ خزائنَ الأرض، وأصبح يَقْسِمُ للناس أرزاقَهم، واقرؤُوا أيضا قِصَّةَ يونسَ عليه السلامُ حين ابتلعَهُ الحوت، فهي من أعجَبِ أَخْبَارِ الفَرَجِ بعد الكَرْب، فَمَنِ الَّذِي يَتَصَورُ أنَّ الحوتَ يَلْفِظُهُ بعد أنْ التَقَمَه؟، ولكِنَّ قَدَرَ اللهِ جارٍ، وحُكْمُهُ نَافِذ.
وتأملوا أيضا عباد الله في سيرة نبيكم الكريم سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد بعثه الله مقلا مخفا أي فقيرا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: “نجمع لك مالا”، فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره،فَعزَّاه الله، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: “فإن مع العسر يسرا”، أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر، فأنجز له ما وعده، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى فتح عليه بلاد الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل الواحد المائتين من الإبل، ويعطي الرجل الآخر عطاء من لايخشى الفقر، ويهب الهبات، ويعد لأهله قوت سنة.
وتأملوا أيضا في إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وما كان فيه من حرج ومشقة وغربة، فيسر الله له بعد ذلك بأن أدخله فاتحا يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
صبرا جميلا ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا
وقال آخر:
كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج، والحمد لله رب العالمين.