من حقوق الإنسان في الإسلام: تحقيق الأمن
بسم الله الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على النبي العدنان وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
وبعد،
السيد عامل صاحب الجلالة على هذا الاقليم الطيب
الشيخ إسماعيل بصير حفظه الله
السادة أصحاب الفضل والعلم والقرار
أشكر الله تعالى أن جمعني بكم، وأشكر المملكة المغربية قيادة وحكومة وشعباً على حسن الضيافة والاستقبال.
الإسلام أيها الإخوة الكرام سبق مواثيق حقوق الإنسان التي أقرها أهل الأرض واجتمعوا عليها ووقعوا عليها على الورق فقط .
الإسلام ينظر إلى الإنسان نظرة راقية فيها تكريم وتعظيم، انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70].
ولم يقل جل جلاله ولقد كرمنا المسلمين أو المؤمنين، بل قال: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾، فإذا كان الله قد كرمه فمن هذا الذي يتجرأ على إهانته أو النيل منه أو الانتقاص من كرامته، وهذه النظرة جعلت لحقوق الإنسان في الإسلام خصائص ومميزات خاصَّة، مِن أهمِّها شموليَّة هذه الحقوق؛ فهي سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية، كما أنها عامَّة لكل الأفراد، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة، وهي كذلك غير قابلة للإلغاء أو التبديل؛ لأنها مرتبطة بتعاليم ربِّ العالمين.
وقد قَرَّرَ ذلك رسول الله ﷺ في خطبة الوداع، التي كانت بمنزلة تقرير شامل لحقوق الإنسان، حين قال: «… فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ»، حيث أكَّدت هذه الخطبة النبويَّة جملة من الحقوق؛ أهمُّها: حرمة الدماء، والأموال، والأعراض.. وغيرها.
وحتى تحفظ الدماء والأموال والأعراض، وحتى يأخذ الفرد حقه في التعليم والكفاية والحرية، لا بد من تحقيق الأمن في المجتمع، لأنه إذا تحقق الأمن أخذ الفرد كل الحقوق، بل إن الأمن حق من حقوق الإنسان كفلته الشريعة الإسلامية ودعت إليه، ففي الحديث: «من أصبح منكم آمناً في سربه..»، فجعل ﷺ الأمن مقدماً على العافية وعلى الكفاية.
الأمن عبارة براقة تتوق إليها النفوس السليمة ويرجوها أصحاب العقول الراجحة، وقد تحيّر الناس أفراداً وشعوباً في الطريقة التي تحقق الأمن لهم ولمن حولهم، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، لكن الإسلام العظيم وضح معالم الأمن ورسم الطريق لتحقيقه، وهيأ الأسباب له ودعا إليه، فكان لزاماً على كل إنسان أراد الأمن والأمان أن يترسم خطى الوحي في تحقيق الأمن
وردت كلمة الأمن ومشتقاتها في القرآن الكريم في عدة آيات، قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ففي هذه الآية رسم المولى جل جلاله طريق تحقيق الأمن والأمان، وهذا ما سيأتي ذكره بعد قليل، ويقول تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾، فقد جعل جل جلاله الأمن نعمة من نعمه يمتن بها على عباده، فالطعام نعمة والأمن نعمة، وفي آية أخرى يجعل الله الخوف عقاباً على الكفر بأنعم الله، واستحلال المحرمات، بل يجعل استحلال المحرمات وترك الشكر الموجب للخوف سبباً لهلاك الأمم والقرى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾، بل إن الله تعالى شاءت حكمته أن يجعل الحرم آمناً ليقيس عليه الناس كل المساجد ودور العبادة، بل لينسحب الأمن فيه على كل مكان، قال تعالى: ﴿ومن دخله كان آمناً ﴾، وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فقد كان الدعاء بالأمن مطلب إبراهيم عليه السلام، دعا به ربه قبل أن يدعوه بالطعام والشراب، لأن الطعام بغير أمن ليس له طعم ولا فائدة.
ويمتن الله على قريش بنعمة الأمن مرة أخرى فيقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾، وكما يكون الأمن في الدنيا فإنه يكون يوم القيامة قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
أما الطريق إلى الأمن في الدنيا والآخرة فهو محط بحثنا الآن، فالأمن أمنان: أمن نفسي يتحقق لكل إنسان في داخله، وأمن مجتمعي يتحقق في الخارج، ولكل طريقه
أولاً: الأمن النفسي
وطريقه الإيمان والتوحيد، قال تعالى: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، وعنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
أما الإيمان، فليس أي إيمان وإنما هو الإيمان الذي يحمل صاحبه على الاستقامة على أمر الله، وأما التوحيد فهو الذي يريح النفوس ويجعل المؤمن في شعور الأمن والطمأنينة متيقناً أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فيرتاح من هموم الدنيا وعنائها، فلقد عمل لوجه واحد فكفاه الوجوه كلها، وأما من لبس إيمانه بظلم الشرك فيكون قد أوقع نفسه في إرضاء أطراف متعددة، فيعيش في قلق مستمر ويخسر أهم شيء في داخله وهو الأمن.
واسمعوا إلى تلك القصة التي تريك الطرفين معاً، كان عمر بن هبيرة الفزاري والياً على العراقين في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما فيه، ولو كان مجافيا للحقِّ أحياناً، فدعا عمرُ بن هبيرة كلاًّ من الحسن البصري وعامر بن شرحبيل، المعروف بالشعبي، يستفتيهما في ذلك، هل له مخرج في دين الله أن ينفذ تلك الكتب؟ فأجاب الشعبي جواباً فيه ملاطفة للخليفة ومسايرة، وبقي الحسن ساكتاً، فالتفت عمرُ بن هبيرة إلى الحسن، وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: يا بن هبيرة خفِ اللهَ في يزيد، ولا تخف يزيدَ في الله، واعلم أنّ الله جلَّ وعزَّ يمنعك من يزيَد، وأنّ يزيدَ لا يمنعك من الله، يا بن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد، لا يعصي اللهَ ما أمره، فيزيلُك عن سريرك، وينقلك من سَعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفتَ فيه ربَّ يزيد، يا بن هبيرة إنك إن تكُنْ مع الله تعالى وفي طاعته يكفِك بائقةَ يزيد، وإنْ تكُن مع يزيد في معصية الله تعالى فإنّ الله يكِلُك إلى يزيد، واعلم يا بن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فبكى ابن هبيرة حتى بلَّت دموعُه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن، وبالغ في إعظامه وإكرامه، فلما خرجا من عند ابن هبيرة، توجَّها إلى المسجد، فاجتمع الناسُ عليهما، وجعلوا يسألونهما عن خبرَيْهِما مع ابن هبيرة، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناسُ من استطاع منكم أن يؤثر اللهَ عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فو الذي نفسي بيده ما قال الحسنُ لابن هبيرة قولاً أجهله، ولكنني أردتُ فيما قلت وجهَ ابن هبيرة، وأراد فيما قاله وجهَ الله، فأقصاني اللهُ من ابن هبيرة وأدناه منه وحبَّبه إليه.
لخص الحسن البصري التوحيد كله في هذه العبارة : «خفِ اللهَ في يزيد، ولا تخف يزيدَ في الله ، واعلم أنّ الله جلَّ وعزَّ يمنعك من يزيَد، وأنّ يزيدَ لا يمنعك من الله»، فحينما يوحد الإنسان يكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيحة في دين الله عز وجل، ويكون قد بلغ أعلى غاية في العلم، لأن الله عز وجل يقول: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
الذي يعلم أنه لا إله إلا الله هو، عالم بنص القرآن الكريم، ولو جهل كثيراً من الأمور الأخرى التي يعلمها كثير من الناس، العلم بالله يعني أن تتيقن أنه لاخافض ولا رافع ولامعز ولا مذل ولا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل، فلذلك حينما يوحد الإنسان، وحينما يسعى إلى مرضاة الله عز وجل وحده، حينما يعمل لوجه واحد يكفه الله الوجوه كلها، فيعيش آمناً مطمئناً لا ترهبه سياط الجلادين اللاذعة ولا سبائك الذهب اللامعة، لا تثنيه عن مواقفه قوة ولا بطش ولا شهوة ولا شبهة، هذا الإنسان الموحد يعيش حياة ملؤها الأمن والطمأنينة والسعادة والفلاح والنجاح، لأنه يعلم أن أمره بيد الله عز وجل وحده، وأنه لن ينفعه ولن يضره إلا الله عز وجل، وقد جاء في الحديث الشريف: «اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»،[الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ].
وأما من أعرض عن الله، وأما من دعا مع الله إلهاً آخر، فهو المعذب الذي يعيش عذاباً نفسياً لا حدود له ، قال تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾.
فأساس العذاب النفسي، وفي بعض الدراسات، العذاب الجسدي هو أن يكون الإنسان مشتت يعمل لوجوه كثيرة، يريد أن يرضي زيداً وعبيداً، يريد أن يرضي زوجته، يريد أن يرضي أولاده، مديره في العمل، شريكه، فيسعى ويتشتت في إرضاء الناس، وربما تعارض إرضاء فلان مع إرضاء فلان، فرضي فلان وسخط فلان وعاش في تمزق وتشتت وضياع، لا يعرف للهدوء ولا للسكينة ولا للأمن معنى، أما حينما يتجه إلى الله وحده يوحده، حينها يكون قد نجا من العذاب والتجأ إلى رب العباد، الذي هو الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تمنحه القوة والأمن والسكينة والطمأنينة.
هذه هي القاعدة: «أنّ الله جلَّ وعزَّ يمنعك من يزيَد، وأنّ يزيدَ لا يمنعك من الله»، فبادر إلى الجهة التي تستطيع حمايتك إلى الجهة القادرة على إحاطتك بالمن والأمان، واترك الجهات التي لا تستطيع أن تحمي نفسها فضلاً عن حمايتك .
كثيرون من الناس يظنون أن الشرك قد ولى إلى غير رجعة، وأنه حقبة مظلمة في تاريخ البشرية، كانت تعني أن يتجه الإنسان إلى عبادة صنم أو حجر لا يضر ولا ينفع، وأنه لم يعد له وجود في العالم الإسلامي اليوم، وأن العقل لا يسمح لإنسان أن يعتقد بنفع حجر أو شجر، لكن الحقيقة أن الشرك مازال موجوداً في العالم الإسلامي، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ سورة يوسف.
أعظم أنواع الظلم أن تشرك بالله شيئاً، فليس الشرك محصوراً في الاتجاه إلى حجر أو صنم، لكن الشرك يكون في الاتجاه إلى أي جهة يعتقد الإنسان أنها تقدم له نفعاً أو تدفع عنه ضراً، وهذا هو الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فلذلك ينبغي على الإنسان أن يمحص إيمانه وأن يفحصه، وأن يمعن النظر فيه، وألا يدع مجالاً للشرك أو الرياء أن يدخل إليه فيثنيه عن مبادئه ويحرفه عن طموحاته واتجاهاته.
لقد بكى ابن هبيرة حين سمع موعظة الحسن البصري حتى بللت دموعه لحيته، فما الذي حصل؟ الذي حصل أن الكلام الذي يخرج من القلب بإخلاص يدخل إلى القلب من غير حجب ولا نوافذ ولا حواجز، لأن الله تعالى في عليائه يمنحه قوة في التأثير تنفذ إلى أعماق القلوب وتخترق كل الحجب، لأن صاحبه يصدر فيه عن إخلاص لله تعالى لاعن مصلحة ولا منفعة دنيوية ومادية محدودة، لقد استطاع الحسن البصري أن يؤثر من خلال كلامه البسيط استطاع أن يؤثر في هذا الوالي، كيف كان ذلك؟ لأنه نصحه من أعماق قلبه، لم يبتغ بذلك أجراً ولا شكورا، لم يبتغ به وجه ابن هبيرة، لم يبتغ به إلا وجه الله عز وجل، فنفذ كلامه إلى أعماق ابن هبيرة، وأخذ منه موقعاً حسناً، فانسابت دموعه تبلل لحيته لأنه سمع الحق فانصاع إليه، هذا هو الأمن النفسي وطريقه التوحيد
وأما الأمن الثاني فهو الأمن المجتمعي، وهذا سبيله الأول والأساس هو العدل، ابدأ من بيتك إن أردت أن يسوده الأمن والأمان فانشر فيه العدل، العدل مع زوجتك، فلا تتكلم على أمها بما شئت وكيف شئت ثم تقيم الدنيا ولا تقعدها إن هي مست أهلك بسوء، فهذا ليس عدلاً، وهذا لا يؤدي إلى الأمن.
ثم بين أولادك ساو بينهم حتى في القبل، إياك أن تبالغ في الإعجاب بابن لك متميز ومتفوق أو جميل الصورة، وتهمل آخر أقل ذكاء أو أقل جمالاً، إياك أن تعتني بالبنين وتهمل البنات أقم العدل بين أولادك، لتنشر الأمن في بيتك ليحب أبناؤك بعضهم بعضاً ويعيشوا بسلام وأمان، إن أردت أن يرافقك ولد من أولادك في الخروج من البيت فأجر بينهم قرعة، وفي المرة الثانية تأخذ ولداً آخر وهكذا.
ثم إن من المخالفات الشرعية التي تشعل البيت اضطراباً وتمنع عنه الأمن والأمان تخصيص ولد من الأولاد بمال دون إخوته، فهذا الظلم يثير العداوة بين الأولاد حتى لو أظهر المظلومون موافقتهم مبدئياً، فهي موافقة شكلية لا تلبث بعد وفاة الأب أن تزول لتحل محلها الخلافات والنزاعات، وكم من أسرة فقدت أمنها لترك العدل والمساواة في العطية
عن النُّعْمَانُ بْنُ بَشِير،ٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي، فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟، قَالَ لَا قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ.
ومن هنا فقد حرم الإسلام الربا الذي يجمع المال في أيد قليلة، وتحرم منه الكثرة الكثيرة فينشأ عند الفقراء شعور بالحرمان يؤدي إلى الإرهاب وانعدام الأمن، فالمال ينبغي أن يكون متداولاً بين جميع الناس، ولا يجوز أن يكون دولة بين الأغنياء فقط، كما بين القرآن الكريم
ومدير العمل حين يقيم العدل بين موظفيه فإنهم يلتفون حوله ويحبون بعضهم، ولا تجد في المؤسسة شحناء ولا بغضاء فقد أقيم العدل فحصل الأمن والأمان.
وحين قدم رسول كسرى إلى بلاد العرب في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ورآه قد توسد أرض المسجد وغط في نومه راعه ما رأى، فقال: قولته المشهورة عدلت فأمنت فنمت
فقد فهم المرزبان المعادلة إنها العدل المؤدي للأمن والأمان:
وَرَاعَ صَاحِـــبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَــرًا بَيْنَ الرَّعِيَّةِ عُــــــطْلاً وَهُــــوَ رَاعِيْهَا
وَعَهْدُهُ بِمُلُوْكِ الْفُــــــــــــرْسِ أَنَّ لَـــهَا سُوْرًا مِــــنْ الْجُنْدِ وَالأَحْرَاسِ يَحْمـيهَا
رَآهُ مُسْتَرِقًا فِـــــي نَوْمِـــــــــــهِ فَـرَأَى فِيْهِ الْجَلالَةَ فِي أَسْمَى مَعَانِـــــــــيهَا
فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِــلاً بِبُرْدَةٍ كَادَ طُولُ الْعَهْدِ يُبْلِــــــــيهَا
فَهَانَ فِـــي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْــــــبِرُهُ مِنْ الأَكَـــاسِرِ وَالدَّنْـــيَا بِأَيْـــــدِيهَا
وَقَالَ قَـــوْلَةَ حَـــقٍّ أَصْبَحَـــتْ مَـــثَلاً وَأَصْـبَحَ الْجِيلُ بَعْدَ الْجِيلِ يَحْكِـيهَا
أَمِنْتَ لَمَّا أَقَـمْتَ الْــــعَدْلَ بَيْنَهُــــــمُوا فَنِمْتَ نَـوْمَ قَرِيــــرِ الْعَيْنِ هَانِـــــــيهَا
خلاصة الأمر، أن الأمن حق من حقوق الإنسان، ويقع جزء من تحقيقه على الإنسان نفسه لاسيما أمنه في نفسه وبيته وأسرته وعمله، أما أمن المجتمع فتقع المسؤولية الأولى فيه على عاتق الدول والحكومات عن طريق إقامة العدل، حيث يقوم مفهوم العدالة الإسلامية على ثلاثة أركان، ولا تعد العدالة مطبقة شرعياً ما لم تقم على هذه الأمور الثلاثة:
1- إعطاء كل ذي حق حقه
2- المكافأة على الخير والجزاء على الشر دون الاكتفاء بأحدهما
3- العدالة تطبق على الجميع دون أي تفريق.
وبعبارة أخرى العدالة في الإسلام هي إعطاء كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ومن غير تفريق، وإن حدث تهاون في أي جزء من هذه المفاهيم الثلاثة حدث خلل في العدل، فهذه الأركان الثلاثة متداخلة، فلا يصح إعطاء كل ذي حق حقه مثلاً في الخير فقط، وليس في العقاب!! كما لا يصح إعطاء كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولكن بترك الكبير والشريف، وتطبيقه فقط على الضعيف والمقهور والعاجز، فالكلُّ سواسية.
وأما الأدلة على هذه الأركان فهي:
1- إعطاء كل ذي حق حقه يقول تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾، ولم يقل تعالى: وإذا حكمتم بين المسلمين أو المؤمنين بل قال ﴿بين الناس﴾، وقال ﷺ: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ».
وقد روى الإمام أَحمد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: أفاء الله خيبر على رسول الله، فأقرَّهم رسول الله كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم؛ فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم، ثم قال لهم: «يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخَلْقِ إليَّ، قتلتم أنبياء الله، وَكَذَبْتُمْ على الله، وليس يحملني بغضي إيَّاكم على أن أحيف عليكم؛ قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فَلِي». فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا.
2- الإثابة على الخير والشر، يقول تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره﴾، ويقول أيضاً: ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون﴾.
3- تطبيق العدالة على الجميع: ففي تقرير واضح وصريح لإحقاق العدل وتطبيقه، ولو كُنَّا مبغضين لمن نَحْكُم فيهم، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135]، ويقول أيضًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، قال ابن كثير: «أي لا يحملنَّكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كُلِّ أَحَدٍ؛ صديقًا كان أو عدوًّا».
ومن المواقف التي تدلل على ما سبق، قصة أسامة بن زيد مع المرأة المخزومية، فلمَّا حاول أسامة بن زيد أن يتوسَّط لامرأة من قبيلة بني مخزوم ذات نسب؛ كي لا تُقطَعَ يَدُها في جريمة سرقة، ما كان من رسول الله ﷺ إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، ثم خطب خطبة بليغة أوضح فيها منهج الإسلام وعدله، وكيف أنه سوَّى بين كل أفراد المجتمع رؤساء ومرؤوسين، فكان ممَّا قاله في هذه الخطبة: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْـحَدَّ، وَايْمُ اللهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
فالعدل في الإسلام لا يتأثَّر بحُبٍّ أو بُغْضٍ، فلا يُفَرِّقُ بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاهٍ ومالٍ، كما لا يُفَرِّقُ بين مسلم وغير مسلم، بل يتمتَّعُ به جميعُ المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين، مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودَّة أو بغض.
فإذا ما تحققت العدالة الاجتماعية تحقق الأمن المجتمعي وبقي ما سوى ذلك وسائل فحسب.
هذه بعض حقوق الإنسان في الإسلام، وإن الإنسان ليمر عليه زمان يتمنى فيه أن تطبق حقوق الحيوان في الإسلام ليرى فيها من العدل والتراحم ما لا يراه بين الإنسان وأخيه الإنسان، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا يسأل الله عنها يوم القيامة»، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا أو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر من فعل هذا؟، لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله ﷺ «لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا»، وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي ﷺ فقال: من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»، فمن قتل عصفوراً سيسأل عنه يوم القيامة، فكيف بمن قتل مائة ألف إنسان، الويل له من اتخذ حيواناً غرضاً للرمي فقد لعنه الله، فكيف بمن جعل البشر غرضاً لقنصه يتلذذ بقتلهم؟ الويل لهم من فرق بين العصفورة وفرخها، له حساب من ربه، فكيف بمن ذبح الأطفال والنساء حقداً؟ الويل له.
من حرق قرية نمل سيقف بين يدي الله، فكيف بمن يحرق قرية من البشر بالصواريخ والبراميل المتفجرة، الويل له
من حبست هرة استحقت نار جهنم، فكيف بمئات الآلاف من المعتقلين في السجون؟
﴿فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون﴾.
إذا جار الأمـــير وحاجـــــباه وقاضي الارض أسرف في القضاء
فويـــــل ثم ويــــل ثم ويــــــل لقاضي الأرض من قاضي الســـــماء
اللهم رب المشرق والمغرب انشر الأمن والأمان في ربوع المغرب.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخاء رخاء مستظلاً بكتابك وشرعة نبيك
اللهم انشر الأمن والأمان في ربوع سورية الغالية، كن لأهلنا في الشام عوناً ومعيناً وحافظاً وأميناً وعجل بفرجك يا أكرم الأكرمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.