من أمراض القلب الاشتغال بما يميت القلب ويحيي شهوات النفس
من أمراض القلب الاشتغال بما يميت القلب ويحيي شهوات النفس
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد، فيا عباد الله، قال الله تعالى في كتابه الكريم:” زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْث،ِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُم،ْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد”، فالنساء والبنون والذهب والفضة والمال والعقار والحرث والأنعام والمنصب والجاه، وغيرها من الشهوات التي زينت للنفوس، هي حلال إذا تعامل معها المسلم وفق حدود الشرع وضوابطه، وقد تكون حراماً إذا خالفت ذلك؛ بل قد تكون سبباً للخسارة في الدنيا والآخرة.
عباد الله،إذا تأملتم في حال الغالبية منا في أيامنا هذه وأين تقضي غالبية أوقاتها غافلة عن ربها، تجدها منهمكة في الاشتغال بما يميت القلب ويحيي النفس باتباع الشهوات واقتراف المعاصي والسيئات، فنظرة عابرة على وسائط التواصل الاجتماعي التي ابتلينا بها في أيامنا هذه كافية في إعطاء نظرة شاملة على مايشتغل به الناس وما يقضون فيه أوقاتهم، فهذا مهتم بما يزين الوجه والشعر وما يغير هذه الجارحة أو تلك ليصبح منظرها جذابا، وهذا منشغل بما يلبسه من أشكال الثياب ليصبح شكله حسنا، وهذا منشغل بما يأكله ويشربه مباهاة وافتخارا، وهذا مهتم بطرق تهييج الشهوة، إلى درجة وصلنا إلى تقديسها وعبادتها وتلبية ندائها في كل لحظة،وأصبحنا غير قادرين على قول لا للشهوة، ومنا من هو منشغل باقتراف المعاصي الصغار والكبار جهارا نهارا وباستمرار، والعمل على توثيقها ونشرها دون خشية أو مراقبة للعزيز الجبار، ومنا ومنا مما تعرفونه، فاشتغالنا بهذا وغيره سبب موت قلوبنا وانتعاششهوة أنفسنا، فأصابنا السعار والهيجان، وسعينا إلى تلبية ندائها وطاعتها وابتعدنا عن منهج ربنا. فمن منا يستطيع أن ينكر هذه الأحوال العجيبة التي نقضي فيها جل أوقاتنا غافلين عن عبادة ربنا؟
واعلموا عباد الله أنه لا يتم الدخول والولوج على الله إلا من باب موت النفس ومجاهدتها ورياضتها وتربيتها وتهذيبها يوما بعد يوم كما هو معروف عند سلفنا الصالح، وتأملوا في قوله عز وجل مخاطبا لقوم موسى بعد ابتلائهم بعبادة العجل، حين قال:” وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”، دققوا في قوله تعالى:” فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”، فإذا كان قوم موسى في زمنهم ابتلوا بعبادة العجل، فقد ابتلينا اليوم بعبادة أمور كثيرة دون أن نشعر، وقد كان الربانيون من أهل الزمان الأول رضي الله عنهم لايحرصون أو نقول يجتهدون إلا فيما يميت نفوسهم ويحيي قلوبهم، ونحن الآن على عكسهم، فلا نحرص إلا على ما يميت قلوبنا ويحيي نفوسنا، إذ كانوا لا يحرصون إلا على ترك شهواتهم وإسقاط منزلة أنفسهم تأديبا لها ومجاهدة لها، ونحن في أيامنا هذه لا نحرص إلا على شهواتنا ورفعة منزلة أنفسنا، وإسقاط منزلة النفس ومجاهدتها وتأديبها عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم شرط لازم أول في طريق السير إلى الله تعالى.
عباد الله، وقد يسأل سائل عن أسباب موت القلب، أجيب فأقول: بأن المعاصي كلها سموم للقلب وأسباب لمرضه وهلاكه، قيل لأحد الصالحين مابالنا ندعو فلايستجاب لنا وقد قال الله تبارك وتعالى: «ادعوني أستجب لكم»؟قال: لأن قلوبكم ميتة،قيل وما الذي أماتها؟ قال: ثماني خصال: عرفتم حق الله ولم تقوموا بحقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده، وقلتم نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعملوا بسنته، وقلتم نخشى الموت ولم تستعدوا له،وقال تعالى: «إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً» فواطأتموه على المعاصي، وقلتم نخاف النار، وأرهقتم أبدانكم فيها، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها، وإذا قمتم من فراشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم وافترشتم عيوب الناس أمامكم فأسخطتم ربكم فكيف يستجيب لكم؟”، فمن منا عباد الله يستطيع أن ينكر أن هذه الخصال التي ذكرها هذا الرجل الزاهد العابد موجودة فينا. أسأل الله تبارك وتعالى أن يحيي قلوبنا بذكره ويوفقنا إلى مجاهدة أنفسنا وتزكيتها بفضله وكرمه أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد فيا عباد الله، فكيف إذن نعمل على إحياء قلوبنا وتربية أنفسنا؟ أقول في الجواب، بأن الطاعات لازمة لحياة القلب لزوم الطعام والشراب لحياة الجسد، فكما يأخذ العبد بالأسباب لحياة جسده من المداومة على تناول الأغذية النافعة في أوقات متقاربة، وإذا تبين له أنه تناول طعاماً مسموماً عن طريق الخطأ أسرع في تخليص جسده من الأخلاط الرديئة والسموم الضارة، فحياة قلب العبد أولى بالاهتمام من حياة الجسد، فإذا كانت حياة الجسد تؤهله لمعيشة غير منغصة بالمرض في الدنيا، فحياة القلب تؤهله لمعيشة طيبة طاهرة في الدنيا وسعادة غير متناهية في الآخرة، وإذا كان موت الجسد يقطع العبد عن الدنيا، فموت القلب يقطعه عن الدنيا والآخرة وتبقى آلامه أبد الآبدين. قال بعض الصالحين: “ياعجباً من الناس يبكون على من مات جسده ولايبكون على من مات قلبه و هو أشد”.
عباد الله، إن أهم شيء يحيي القلب ويهذب النفوس هو تذليل النفس بتعمير الوقت بالطاعات وكفها عن الشهوات، وأهم الطاعات التي ينصح بها السلف الصالح لذلك، ذكرالله عزوجل، وتلاوةالقرآن بتدبر، والاستغفار، والدعاء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقيام الليل، ومداومةالصيام، فهكذا كان الرجال من الربانيين الكبار يعالجون هذه الأمراض القلبية المعضلة، والحمد لله رب العالمين.