من أعظم دروس رمضان تعليم الجود لبني الإنسان
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:”ومما رزقناهم ينفقون”، وقال عز وجل:” سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء”، وروى الإمام البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة”، ومعنى “المرسلة ” أي: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح وعبَّر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.
أيها الإخوة الكرام، إن من جملة مسائل التقوى التي يحض عليها الصيام أن يشعر الغني بحال الفقير، وكيف أنه يعاني الجوع والحاجة، فيدعوه ذلك إلى الإحسان إليه ودفع حاجة أخيه، وكل ذلك من جملة التقوى التي هي غاية الغايات من الصيام، ومن أعظم الدروس والقيم والأخلاق النبيلة التي ينبغي أن نتعلمها من مدرسة رمضان الجود والكرم والإنفاق والمواساة في سبيل الله، ولو لم يكن من دروسه إلا ذلك لكان يكفي، فمامعنى الإنفاق في مفهومه الواسع؟ وكيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين رضي الله عنهم في جودهم وكرمهم خلال هذا الشهر؟ ولم لانتعلم الجود والكرم والإنفاق ونحن نعيش صورا رائعة منه خلال أيام هذا الشهر العظيم ؟
أيها الإخوة الكرام، بداية إن إنفاق المال ليس بالأمر السهل والهين، فالمال شقيق الروح كما يقال لأن الإنسان أودع فيه حب المال والحرص عليه، وفي بذله مخالفة النفس ومطالبة رضا الرب، وذاك هو ثمن الجنة، ثمن الجنة هو أن تعاكس طبعك أيها المسلم، وهكذا يتبين أن حكمة الإنفاق للمنفق هي تزكية النفس عن البخل والمن وحب المال، روى الحاكم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”مايخرج رجل شيئا من صدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانا”، لأن الصدقة على وجهها إنما يقصد بها ابتغاء مرضاة الله تعالى، وشياطين الإنس والجن بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة العظمى، فلا يزالون يأبون في صده عن ذلك، وإنفاق الإنسان المؤمن للمال دليل على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته. ولكن أليس للإنفاق معنى أوسع من إنفاق المال؟
نعم أيها الإخوة والأخوات إن معنى الإنفاق يتسع فيشمل إنفاق المال وإنفاق النفس، أي أن تجود بنفسك وتجود بمالك وتجود بمكانتك الاجتماعية وجاهك في سبيل الصالح العام، وتأتي على المرء ظروف تدعوه لأن يجود بوقت راحته، بوقت قيلولته، وبوقت جلوسه في البيت من أجل إغاثة لهفان أو إنجاد متوسل أو إسعاف مريض، فهذا كله داخل في الإنفاق، ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا- وهو يعني مسجد المدينة-“، ومن أنواع الإنفاق أن تجود بسمعتك لصالح من ظلمك وشتمك، فتتحمل كل الغلظة والجفاء منه وتعفو وتصفح عنه، فالبطولة كل البطولة في تحمل الأذى وليس أن توقع الأذى بمن آذاك، ويدخل في الإنفاق أيضا جودك بالابتسامة وخفض الجانب ولينه لمن معك في بيتك وعملك والسؤال عن أحوالهم وعدم الترفع عنهم، وهذه الأنواع من الإنفاق في مقدور كل واحد منا وسهلة على من سهلها الله عليه.
فالناس أيها الإخوة الكرام أحد رجلان إما أن تكون من الكرماء أو من اللؤماء، فالكريم هو الذي يبني حياته على العطاء ولو بابتسامة ولو بكلمة طيبة ولو بوقت يبذله ولو بعلم يقدمه ولو بخبرة يسمح للناس أن يأخذوا بها ويستفيدوا منها، الكريم هو الذي ينفق وهو في بحبوحة وينفق وهو في ضيق أيضا.
تأملوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلكم الحديث الطويل الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي بأن شهر رمضان شهر المواساة، ومن فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، قالوا يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائما سقاه الله من الحوض شربة لايظمأ حتى يدخل الجنة،” إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم ندبنا جميعا من خلال أفعاله الأصيلة وأقواله الرصينة إلى فعل الخير والجود على الغير ولو بأقل الخير، وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم يستطيعه الفقير والغني على حد سواء، وتأملوا أيضا في كرم الصحابة رضي الله عنهم وجودهم في رمضان، فهذا ابن عمر رضي لله عنهما يصوم ولا يفطر إلاَّ مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه،لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجِفْنَةِ، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً، وهكذا كان شأن التابعين في جودهم، فهذا العلامة ابن شهاب رحمه الله، يقول: “إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام”، أسأل الله تعالى أن يوفقنا للاقتداء بهم أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله.
تأملوا أيضا في وجوب زكاة الفطر على الفقراء والأغنياء على حد سواء في رمضان، فقد قال بعض أهل العلم في لفتة لطيفة: هذه الزكاة تكاد تفرض على كل مسلم يملك قوت يومه، وهذا تدريب على دفع المال حتى في أشد ساعات العسرة، فالفقير المعسر عليه أن يدفع هذا المال، جعل الله عز وجل هذا الفقير يأخذ المال في كل أيام العام، لكن عليه أن يدفع زكاة الفطر ولو كان معسراً، ولا يعفى من زكاة الفطر إلا من لا يجد طعام يومه، إن الله سبحانه وتعالى فرضها على المسلم الفقير تدريباً له على أن يذوق طعم العطاء، طعم البذل، لأن للبذل والعطاء طعم لا يعرفه إلا من ذاقه، حتى أنه في اللغة العربية هناك كلمة الأريحي، ومن هو الأريحي بالمناسبة؟ الأريحي هو إنسان فوق الكريم، لأنه يوجد الإنسان الكريم ويوجد الإنسان السخي، الكريم معروف والسخي هو الذي يكثر البذل، لكن الأريحي هو الذي يرتاح للعطاء، فهناك لذة في الأخذ وهناك لذة في العطاء، هذه اللذة لا يعرفها إلا من ذاقها، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد حينما فرض زكاة الفطر على كل مسلم غني أو فقير، صحيح أو مريض، ذكر أو أنثى، أن يذيق طعم العطاء لهؤلاء الفقراء، إذن فلا يقولن قائل بأن الجود والكرم خاص بالأغنياء مرفوع عن الفقراء. روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :”سبق درهم مائة ألف”، قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهم مائة ألف؟” قال: رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضها مائة ألف”.
ختاما إن المطلع على حالنا في هذا الشهر الفضيل يجدنا بحمد الله تعالى ننفق ونجود على الضعيف والأرملة والمسكين، وتجد البعض الآخر منا يشتري مؤنة رمضان أو قفة رمضان ويوزعها على المحتاجين والمرضى والمزمنين والمعاقين، ومنا من جعل كمال حوله ووجوب زكاته متزامنة مع هذا الشهر لينفقها في زمانه الفضيل، ومنا من تداعى لنصب خيام مجانية لإفطار عابري السبيل والحاجة، ومنا من يتساءل عن فديته الواجبة عليه وعلى مقدارها ومستحقيها ليخرجها، ومنا من يتساءل من الآن عن مقدار زكاة الفطر ليتمكن من إخراجها في وقتها، ومنا ومنا، وفي الجملة حالنا تختلف عن باقي شهور السنة بأكملها في الجود والكرم والإنفاق والمواساة، فياليته تبقى هذه الأخلاق الراقية من أخلاقنا وطباعنا الملازمة لنا طول أعمارنا، وياليت هذه الصور الجميلة والمناظر الرائعة لصور الكرم والجود والمواساة تبقى دائما وأبدا في مجتمعنا، لهذه الخطبة تتمة سنأتي عليها في خطبة لاحقة والحمد لله رب العالمين.