مناسبة المسيرة الخضراء بين الحدث التاريخي والتأصيل الشرعي
المسيرة الخضراء التي يخلدها الشعب المغربي في يوم 6 نونبر من كل سنة، هي مسيرة شعب آمن بحقه في تحرير الأرض والإنسان، وكانت من تخطيط أمير المؤمنين الحسن الثاني رحمة الله عليه،
ولم يكن يهدف من وراء هذه المسيرة غزو أرض ولا نشر مذهب، بل كان يريد أن تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية، بأن تعود الأرض إلى أهلها وتستكمل بذلك وحدتنا الترابية بعد الانقسام والانفصال الذي فرضه الاستعمار الإسباني البغيض الذي لا يحسن إلا سياسة فرقة تسد، وأيضا لإتما م مشروع التحرير الضارب في أعماق التاريخ، و كانت بحق أسلوبا سلميا جديدا في التحرير .
ومما يمكن قوله في هذا المضمار أنه كان انطلاق جش التحرير بالجنوب سنة 1956م تعبيرا قويا يجسد إرادة إمارة المؤمنين والرعية لاستكمال الاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية، وخاض هذا الجيش الذي ضم كل أبناء القبائل الصحراوية وإخوانهم المجاهدين من مختلف جهات المغرب عدة معارك ضارية على امتداد ربوع الساقية الحمراء ووادي الذهب، وحقق انتصارات باهرة لم تجد القوات الإسبانية أمامها إلا أن تتحالف مع نظيرتها الفرنسية فيما سمي بعملية أكفيون.
وبتاريخ 25 فبراير 1958م استقبل أمير المؤمنين محمد الخامس بمحاميد الغزلان وفود وممثلي وأعيان قبائل الصحراء الذين جددوا البيعة له وتأكد تجندهم دفاعا عن مقوماتهم المغربية العريقة.
في حدث المسيرة الخضراء لبى المغاربة نداء الملك والوطن وخرجوا في مسيرة سلمية سلاحهم القرآن الكريم والعلم الوطني، وحافزهم الإيمان وغايتهم إزالة الحواجز الفاصلة بين الأهل والأقارب والإخوان الذين تجمعهم وحدة العرف والعادات واللغة والتقاليد، ويجمعهم ارتباط أسلافهم بملوك الدولة المغربية وسلاطينها بفاس، فخرج حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف متطوع من جميع أقاليم المملكة، وأكدوا للعالم أجمع التجاوب الحاصل بين أمير المؤمنين ورعيته، وأن الجميع مجمع على تحرير الصحراء من ربقة الاستعمار، كما أكدوا أن استكمال الوحدة الترابية هدف كل المغاربة لايعلو عليه هدف آخر .
وقد كان المؤمل أن يكون هذا التحرير للصحراء المغربية حدثا سعيدا، وبشرى طيبة لكل مسلم يؤمن بحق الإنسان المسلم في أن ينخلع عن سلطة وحكم الكافر، لكن هذا الانجاز التحريري قد اصطدم في هذه المرحلة التي اختلت فيها القيم، بمعاكسة الإخوان والجيران الذين سكتوا على استعمار الصحراء، ولم يسكتوا وهم يرونها تعود إلى الأرض التي اقتطعت منها، كما اقتطعت كل الأماكن التي استردها المغرب بعد جهاد طويل.
ولقد انتهى الأمر أخيرا إلى الترويج لأطروحة تقسيم الأرض التي عادت إلى أهلها ليتسنى بذلك تكوين كيان جديد، ودويلة مجهرية تتاجر بالولاء، وتدين بالتبعية لمن ساعد على إنشائها .
إن الدعوة إلى تقسيم الصحراء المغربية دعوة شاذة يرفضها الإسلام، ويأباها التفكير السليم ويجانبها الصواب، وهي بهذا لا تستند إلا إلى الرغبة في التجزئة والتوسع ولو على حساب الحق والصواب ومصير الأمة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رقبته”.
والدعوة إلى التقسيم والتجزئة دعوة ظالمة جاءت لتنقض ميثاق البيعة الذي أقرت بوجوده محكمة العدل الدولية، وهو ميثاق شرعي لم يعرف المسلمون غيره أسلوبا معبرا عن الولاء السياسي، كما أن دعوة التقسيم ظالمة للبشر أيضا لأن ذلك التقسيم ليس تقسيما للأرض فقط، وإنما هو تقسيم للأكباد والقلوب التي تعيش على تلك الأرض، وهو أيضا تقسيم للأسر والعشائر والقبائل والأصهار والأصدقاء، فإذا حيل بين الأخ وأخيه وأخته، وبين الأم وابنها وبنتها وبين الأقرباء، أفلا يكون ذلك عدوانا ومخالفة صريحة للشرع ؟ روى الترمذي عن أبي أيوب أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من فرَّق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة “.
بالله عليكم ماذا سيكون جواب إخواننا المقيمين بالضفة الأخرى لله تعالى غدا عنده عندما يسألهم عن سبب جفائهم لأهليهم وأحبتهم كل هذه المدة الطويلة؟ وماذا سيقول الولد لله تعالى عندما يسأله عن سبب عقوقه وسبب غيبته عن أحد والديه مدة تزيد على الثلاثين سنة؟ وقد يموت الوالد أو الوالدة ولم يسمح لنفسه بالاجتماع معهما ورؤيتهما، وما ذا سيقول الأخ لله تعالى عندما يسأله عن السبب في عدم زيارة أخيه أو أخته المريضة؟ وماذا سيقول الجيران لله عز وجل غدا عنده، فعوض أن يوفقوا ويقاربوا ويجمعوا بين أهل العشيرة الواحدة تراهم يؤلبون ويتوعدون ويشتغلون في السر والإعلان من أجل ترك الأمر على حاله وفصل وطن واحد إلى جزئين؟ وكأنه ليست هناك آخرة تنتظرنا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي عن أنس: “من أصبح لا يهتم للمسلمين فليس منهم”.
إن الخلاف والمشاكل تطرأ بين أهل الأسرة الواحدة، وبين أهل القبيلة الواحدة،وبين أهل الدولة الواحدة، وهذه سنة الله في خلقه، ولكن المتمتع بذرة من الإيمان بالله عز وجل لا يمكن أن يدع الخلاف يستمر لأكثر من ثلاثة أيام كما هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر،فما بالك بأن أسعى بكل ما أملك ليشتد هذا الخلاف وليستمر لأعوام متتالية!
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال :” لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ” ، وروى الإمام مالك في الموطأ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”…
وإنه عند البحث والتقصي والتفكر بإمعان في جذور هذا المشكل القائم بين أهل البلد الواحد، تجد مرده إلى ضعف الوازع الإيماني في القلوب، وتغلغل الأفكار الشيطانية بين الناس، وخاصة تلك التي تدعو إلى التفرقة والتشرذم والتشتت وعدم الانسجام وتوحيد الرؤى، وكان جديرا بنا ونحن مسلمون أبناء وطن واحد وتاريخ واحد وجغرافية واحدة أن نضع اليد في اليد والقلب على القلب ونشمر على ساعد الجد وننافس القوى المتقدمة بدل من المراوحة في نفس المكان كحمار الرحى، وتضييع الوقت فيما لا طائلة وراءه، فهذا عصر الاتحاد والاتحاد قوة، فليكن كل همنا هو جمع شمل خلق الله ليعيشوا كالجسد الواحد، وليتنعموا بالسعادة والهناء التي طالما تطاولوا إليها.
وعيب وعار كبير علينا وديننا الإسلامي الذي نحتكم إليه جميعا يدعونا إلى التوحد والتماسك والتعاون وجمع الكلمة وصلة الرحم ونبذ العصبية … ونحن نسعى إلى خلاف ذلك، انظروا إلى جيراننا في أوربا، وهم ليسوا على دين الإسلام، كيف تكتلوا وتوحدوا وأصبحوا قوة عظمى بين عشية وضحاها، إنه حري بنا التشبه بهم والاحتذاء حذوهم بدل الإصغاء إلى الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وقد قيل:
وإن بدا لك علم عند منخفض فإجن الثمار وما عليك من خشب
أيضا في جانب التأصيل الشرعي لحدث المسيرة الخضراء فإني وجدت كثيرا من مشاهدها فيه اقتداء بغزوة فتح مكة التي قادها سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلها تعد استلهاما منها، وسأعرض بعض النقاط الهامة في غزوة الفتح الأعظم لمكة، والتي استفاد منها أمير المؤمنين الحسن الثاني رحمه الله فوظفها في تنظيم المسيرة الخضراء.
أ) السرية التي صاحبت فتح مكة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمنا عائشة رضي الله عنها أن تجهزه ولا تعلم أحدا بذلك، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الصحابة رضي الله عنهم وأمرهم بالجهاز وأعلمهم أنه سائر إلى مكة وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها … وهذه نفس السرية التي صاحبت حدث المسيرة قبل إعلانه.
ب) خروج النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من الصحابة يشكلون مشاركة أغلب القبائل كسليم وأسلم وخزاعة ومزينة وغفار وجهينة والمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين …وهو نفس ماحصل في المسيرة حيث شارك فيها ما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين ألف متطوع ومتطوعة يشكلون مشاركة أغلب المدن المغربية وقراها ومداشرها.
ت) أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يد خل مكة سلميا بدون إراقة دماء وقال لهم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن”، وقال أيضا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما طلب مفاتيح الكعبة المشرفة :” اليوم يوم بر ووفاء “، ودخلها يومئذ فاتحا يضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل، وقال يعاتب سعد ا سيد الأنصار عندما قال لأبي سفيان :اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا ” قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اليوم يوم تعظم فيه الكعبة اليوم أعز الله فيه قريشا”…. وهكذا تماما دخلت جموع المتطوعين إلى الصحراء سلميا وبدون إراقة دماء.
ث) دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ورأى فيها صورة سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام فقال: قاتلهم الله والله ما استقسما بها قط ، وكذلك فعل المغاربة عندما وجدوا الحدود الوهمية التي وضعها الاستعمار فاخترقوها وأزاحوها من أمامهم وصححوا التاريخ وكأني بهم قالوا: والله ما كانت هذه قط.
والحمد لله رب العالمين