مكانة الأم -1-

الحمد لله، الحمد لله الذي بهداه هدانا، ومن خلقه اصطفانا تفضلا منه وامتنانا، وأنزل القرآن هدى للناس وبيانا، فقال جل وعلا: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا سرا وإعلانا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجب طاعة الوالدين وحرم عقوقهما وقال: “إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد العظماء وأشرف الكرماء، القائل:”الجنة تحت أقدام الأمهات”، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات، في الجمع الماضية خصصنا الحديث عن المرأة وعن مكانتها وعن تكريمها بمناسبة الإحتفال بيومها العالمي، واليوم أريد أن أتكلم عن واحدة من سيدات النساء، التي ينبغي أن نحتفي بها، ونعلم مكانتها، تكريما لها واعترافا بقدرها وتذكيرا بحقوقها، وتكفيرا عن التقصير الذي بدأنا نراه في مجتمعاتنا في التعامل معها، إنها الأم، ونحن أمة الإسلام نحمد الله تعالى على أن وجهنا الله للإهتمام بآبائنا وأمهاتنا في محكم التنزيل، وخص الأم بآيات ترشد الغافيلن إلى ما لها من الحقوق فقال وهو أصدق القائلين: “وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا”. أيها الإخوة المومنون، لقد أمرنا الله تبارك وتعالى ببر الوالدين، فقال تعالى على لسان نبيه نوح عليه الصلاة والسلام “رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ” وقال على لسان نبي الله يحيى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام “وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا”، وخص الأم بالذكر، فقال على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم ” وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا”، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَال:َ “أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ” وحق الرعاية والعناية لا يقتصر على الوالدين المسلمين بل يمتد إلى الوالدين الكافرين أو المشركين، فعن أسماء (ض) قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: “نعم، صلي أمك”. أخرج الإمام أحمد عن أبي أسيد الساعدي (ض) قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمه فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: “نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما”، ومما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن العبد ليموت والداه أو أحدهما، وإنه لهما لعاقّ، فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارًا ورأى إبن عمر (ض) رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل بكثير”. أيها المومنون، الوالدان يتطلعان إلى الإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف والحنان، والبعض منا تناسى ضعفه وطفولته وأعجب بشبابه وفتوته غرته شواهده وثقافته، وترفع وتكبر بجاهه ومرتبته، تذكر أخي أن أمك حملتك في أحشائها تسعة أشهر وهنا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرها، لا يزيدها حملك إلا ثقلا وضعفا، وعند الوضع رأت الموت بعينيها، ولما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت كل آلامها، وعلقت فيك آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، وهي بك رحيمة وعليك شفيقة، إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها، فماذا قدمت لها؟ وهل ما تصنعه يكافئ جميلها؟، أيها المومنون، لقد فقه السلف الصالح رحمهم الله قدر بر الوالدين وعظيم مكانته، فضربوا في ذلك أروع الأمثلة وأجملها: فهذا زين العابدين بن علي قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. ولما ماتت أم أياس بن معاوية بكى بكاء شديدًا، فقيل له فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأغلق أحدهما، وحقّ لعين بكاؤهما. لأمـك حـق لـو علمت كبيـر ** عظيمك يـا هـذا لديه يسير ** فكم ليلة بـاتت بثقلك تشتكـي ** لها مـن جواهـا أنـة وزفير ** وفِي الوضع لو تدري عليك مشقة ** فكم غصص منها الفؤاد يطير ** وكـم غسلت عنك الأذى بيمينها ** ومن ثديها شرب لديـك نمير. جعلني الله وإياكم من البارين لوالديهم، الحريصين على خدمتهم، والدعاء لمن توفاه الله لجواره منهم، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم المفلحون. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، أدعوكم للإستماع لهذه القصة العظيمة، عن أسير بن جابر (ض) قال: كان عمر (ض) اذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى إليه فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: الك والدة؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ياتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن: كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة يحوبها برا، لو أقسم على الله لأبره”، فإن إستطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي”. فانظروا أيها الإخوة المؤمنون إلى هذه المنزلة التي بلغها هذا العبد البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن يقول لعمر(ض) إن إستطعتأن يستغفر لك فأفعل، وانظر الى جد عمر (ض) في البحث عن هذا الرجل البار ليطلب منه الإستغفار له، لآنه مستجاب الدعاء بسبب خدمته وبره بأمه

مقالات مماثلة

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *