مقدمة كتاب: “التشريع الرباني وقضايا المرأة في ضوء التحديات المعاصرة”.

مقدمة كتاب: “التشريع الرباني وقضايا المرأة في ضوء التحديات المعاصرة”.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الكائنات، وعلى آله وصحبه أصحاب الرتب العاليات، وسلم تسليما كثيرا طيبا.
أما بعد، فقد عزمت مؤسسةُ “محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام”، الذراع الأكاديمي للطريقة البصيرية، في شخص رئيسها خادمِ أهل الله بزاوية جده الشيخ سيدي إبراهيم البصير ببني اعياط، الأستاذ الشيخ مولاي إسماعيل بصير – حفظه الله -، على طبع أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها تحت الرعاية السامية لمولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله ونصره، يومي 06 -07 محرم 1445ه موافق 24-25 يوليوز 2023م بمقر الزاوية البصيرية ببني اعياط، وبقاعة الاجتماعات بعمالة أزيلال، تحت شعار: “التشريع الرباني وقضايا المرأة في ضوء التحديات المعاصرة”.
وقبلَ أن أبسطَ الكلام في هذه المقدمة عن الأسبابِ الموضوعية التي دعت المؤسسةَ إلى اختيار تدارُس هذا الموضوعِ وأهميتِه، وإعطاءِ نظرة شاملة عمّا تضمنه هذا الكتابُ بين دفتيه، أحبُّ أن أُطْلعَ القارئَ على جانب مهمّ من عمل الزاوية البصيرية ومؤسساتها، ودورها الكبير في تأطير الجانب النسائيّ، ومن خلال ذلك، الكلامُ عن دور النساء المهمِّ في النهوض بأعمال الزاوية ومؤسساتها، لأني وجدت العديدَ من الناس يجهلون أدوار المرأة في الزاوية المغربية أو يغيّبونه، وهو جدير بأن يُذكرَ، ويُعرفَ، ويُنشرَ.
فالذي ينبغي أن يعرفَه القارئ الكريم بهذه المناسبة، أن الزاوية البصيرية، ومنذ وجودها الأولِ في الصحراء المغربية قبل حوالي مائتين وثمانين سنةً تقريبا، وفي كل محطاتها التي مرت منها في سوس ومراكش والرحامنة ودكالة والشاوية وتادلة والأطلس المتوسط، إلى أن استقرت ببني عياط، كانت دائما تعتمد على المرأة في أنشطتها ومختلِف أعمالها، ولولا وجودُ المرأة بجانب شيوخ الزاوية ما كانت الزاوية البصيرية لتحقق نجاحا واحدا يذكر لها، كما كانت الزاوية تعمل على تأطير النساء، وخاصة في الجانب العلمي والديني في حدود الإمكانيات المتوفرة لها في كل وقت وآن.
ومما هو معروف ومشهور، أن النساء في رحاب الزاوية البصيرية يشتغلن ليلَ نهار في خدمة طلبة مدرسة الزاوية، الذين يفوق عددهم اليومَ الأربعمائة طالبا وطالبة، عِلاوة على خدمة ضيوف الزاوية من الفقراء وغيرهم من المتوافدين كلَّ يوم وبالعشرات، فعملهن اليومي يبدأ قبل صلاة الفجر ويستمر إلى ما بعد صلاة العشاء، هذا دون أن يغفُلْنَ أورادهن اليومية من الأذكار وأداء الصلوات مع الجماعة، كما أنهن يُقمنَ مجالس للذكر الجماعيّ بين الحين والآخر، ولا يمكن أن تجد امرأةً بدون سبحة الذكر، ويعشْنَ جميعا كالجسد الواحد في كل شيء.
وتاريخُ الزاوية حافلٌ بالعديد من أسماء النساء اللواتي عُرفنَ واشتهَر أمرُهن بذلك، وفي وقت متقدم، تحدث العلامة سيدي محمد المختار السوسي رحمه الله في كتابه المعسول عن العالمة مريمَ الصحراويةِ – رحمها الله -، وأن الشيخ سيدي إبراهيم البصير استقدمها من سوس لتدريس بناته على وجه الخصوص، فلا بد من التدقيق هنا والتأمل فيما فعله السيخ سيدي إبراهيم البصير – رحمه الله -؛ لأن البلاد في هذا الوقت كانت تحتَ وطأة الاستعمار الفرنسي، ومع ذلك كان يهتم بتدريس البنات، الأمر الذي لم يكن يهتمُّ به كل الناس، ولم يكن متاحا لكل أحد.
والسيدة مريمُ هذه – كما عرفها العلامة المختار السوسي رحمه الله -: هي العالمةُ الصالحة الشهيدة، مريمُ الصحراوية بنتُ محمد سالم بن عبد الله بن احمادو، من قبيلة آل سالم المشهورين بالعلم، وهي قرينةُ محمد سالم بن عبد الفتاح، الشاعر العلوي الشنقيطيّ، كانت هذه السيدةُ العالمةُ حين نزلت مع زوجها في إلِغ تُعلّم بناتِ الحاج صالح في دار الأستاذ سيدي المدني بن علي، وكانت تُتقن حفظَ القرآن الكريم، ولها يدٌ حسنة في العلوم الشرعية، وكان لها في تلاوة كتاب الله العجبُ العُجابُ، بغنّتها الصحراوية الحلوة، وكانت تقوم الليل كلَّه إلى وقت السحر وهي تشتغل بالتهجد والتلاوة، وكانت صاحبة سمت حسن، وأخلاق طيبة، انتقلت هذه السيدةُ في أواسط سنة 1356هـ، إلى زاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير ببني اعياط، حيث استقدمها وشارطها لتعليم بناته، وقد استفادت منها هذه الزاوية استفاداتٍ عظيمةً، إلا أن الاستعمار الفرنسيَّ هاجم الزاوية سنة 1937م، وقتل عددا من الفقراء المتجردين بالزاوية، وقتلَ فيمن قتلَ السيدة الصالحةَ الصوفية مريمَ الصحراوية – رحمة الله عليها -، فهي بذلك شهيدة مدفونة بمقبرة الزاوية البصيرية مع الشهداء .
وممن تكلم عن هذا الجانب، والدُنا وشيخنا سيدي محمد المصطفى بصير – رحمه الله – في كتابه: «الاغتباط بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير ببني عياط» في عدة مواضع من كتابه، حيث ذكر أن غالبية القبائل والدواوير التي ساح فيها الشيخ سيدي إبراهيم البصير سياحاتِه الصوفيةَ الدعوية، فكما خلّف فيها مريدين خلّف فيها مريداتٍ، وأن كل طائفة منهن لديها مقدمةٌ ترأس المجموعة وتنسّق بينهن وبين خادم الزاوية، وذكر العديد من الأسماء النسائية، اللواتي رابطن بالزاوية وخلّد التاريخ أسماءهن في الخدمة والصلاح وتسبيل أنفسهن في خدمة طلبة العلم وأمور الزاوية الكثيرة، بل منهنّ من كانت تساهم بمالها في بناء منشآت الزاوية والإنفاق على مرافقها، ونذكر من هؤلاء:
الحاجةَ الزوهرة بنت الحاج صالح بوكطاية العروسية، والسيدة زهرة البشير، والسيدة الفارسية -رحمهن الله -، وغيرهن كثير…، ونذكر ممن عرفناهنّ ويعرفهن ّكل أحباب الزاوية بالخصال نفسِها، ممن رحلنَ إلى الدار الآخرة: السيدةَ الحاجة عائشة الناشد بنت الشيخ فضول، والسيدة الحاجة حادة عثمون بنت الحاج المعطي بن علي، والسيدة نانة السيمو – رحمهن الله -، وغيرهن كثير…
فقد كان هؤلاء – كما يذكرهن الجميع – لبناتٍ أساسيةً في مختلِف أعمال الزاوية، ومربياتٍ عظيماتٍ وحكيماتٍ يحملنَ لواء العطف والحنان، ومعلماتٍ ناجحاتٍ رائداتٍ في تهذيب الأخلاق وصيانتها، وهنّ – بعد الشيوخ – من كان يأخذ بالقافلة إلى بَر الأمان، فبفضل تضحياتهن وصبرهن تحقّق الشيءُ الكثير في الزاوية.
وفي هذا الجانب أيضا، نذكر أن كتّاب ومدرسةَ الزاوية البصيرية، ومنذ عهد الشيخ سيدي محمد المصطفى بصير – رحمه الله -، فتحا أبوابهما من جديد لتعليم البنات على يد العلماء والفقهاء المشارطين للتدريس بهما، بالإضافة إلى انتسابهن للتعليم النظامي في المدارس القريبة من الزاوية.
وفي عهد الشيخ إسماعيل بصير – حفظه الله -، تمّ تأسيسُ إقاماتٍ داخليةٍ خاصةٍ بالبنات، لأجل متابعة تعليمهن في المدارس العتيقة على النمط الجديد، كما جددته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في هذا العهد، فلا يُحصى عدد البنات اللائي ختمنَ القرآن الكريم، واللائي حصلنَ على شهادة البكالوريا في المدارس الثلاث التابعة للزاوية البصيرية؛ بكل من إقليم أزيلال، وإقليم برشيد وإقليم سيدي بنور، ومن ثَمّ فلا يُحصى عددُ البنات اللائي بحمد الله تعالى تخرجنَ ويتابعن الآن دراستَهن العليا في مختلِف المعاهد والجامعات.
وهكذا، فقد جاء تنظيمُ هذه الندوةِ العلمية الدولية تحت هذا الشعار المهم، انطلاقا أولا من عناية الزاوية البصيرية والمؤسسات التابعة لها بالجانب النسائي، وإدراكا منها للدور المهم للمرأة في النهوض بالمجتمع وتطويره، خاصةً أن مؤسسة “محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام”، طرقت في إحدى الندوات السابقة موضوعَ: “أهل التصوف والإشكاليات المعاصرة للطفولة والشباب”، وبقي عليها دَيْنا أن تُتممَ الكلام بمناقشة موضوع المرأة باعتبارها أساسَ الأسرة ولبنتَها الأولى.
وتأكد لدينا المضيُّ قدما في هذا الموضوع لـمّا وجدنا مولانا صاحبَ الجلالة الملكَ محمداً السادس حفظه الله ونصره، خصّ المرأة المغربية بالحيز الكبير من خطاب العرش للعام الماضي، وأمر جلالته بضرورة النهوض بوضعية المرأة والأسرة، وشدّد على مشاركتها الكاملة في كل المجالات، وفسحَ آفاقَ الارتقاء أمامَها، وإعطائها المكانةَ التي تستحقها، وكاملَ حقوقها القانونية والشرعية، وشدد جلالته على ضرورة التزام الجميع بالتطبيق الصحيح والكامل لمقتضيات مدونة الأسرة، وتجاوز الاختلالات والسلبيات التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود التي تم الانحراف بها عن أهدافها في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية، كما قال جلالة الملك حفظه الله في الخطاب المشار إليه.
وبذلك عزمت المؤسسة على الانخراط الجدي فيما ندَب إليه أميرُ المؤمنين جلالةُ الملك محمدٌ السادس حفظه الله ونصره، بتنظيم هذه الندوة العلمية الدولية؛ بقصد التذكير بهدايات التشريع الرباني حول قضايا المرأة العديدة، وبقصد تقديم الإضافة النوعية النافعة بالحكمة والموعظة الحسنة، خاصة أن وسائطَ ووسائلَ التواصل الاجتماعي التي يتعاطاها الناس كثيرا في هذه الأيام، امتلأت بآراءِ بعض الكتّاب والباحثين من الحقوقيين والمؤثرين المغرضين وغيرهم في غالبية القضايا المتصلة بالمرأة ومدونة الأسرة، فشوّشوا على الناس كثيرا فيما يعتقدونه ويدينون به.
هؤلاء القلةُ الذين يسعون في هذه الأيام بكل ما أوتوا لإلزام الفئة العظمى من المجتمع بوجهة نظرهم في مسائل بعينها لتقنينها في المدونة الجديدة، باسم الانتصار للمرأة والدفاع عنها بانتقاد أحكام التشريع الرباني، والترويج بأنه بخس حقوق المرأة، ويؤازرهم في ذلك أعداءُ الدين الذين يراهنون على موضوع المرأة لضرب مختلِف القيم التي يفخر بها المجتمع المسلم.
فقد خططوا لتقويض أدوار المرأة المسلمة وجهودها في بناء الأسرة، وللقضاء على المجتمع الإسلاميّ منذ زمن متقدم، وهددوا ولازالوا يخططون ويهددون لبلوغ أهدافهم المسمومة المرسومة، ورفعوا لأجل ذلك شعاراتٍ براقةً مغريةً، كشعار القضاء على كل أشكال التمييز ضدّ المرأة، فعادت الجاهليةُ الأولى في صورة المشفِق على المرأة عن طريق وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، والمجلات وصفحات الجرائد والأغاني الفاجرة، والمسلسلات والتمثيليات التي لا تخلو من رسائلَ، وغير ذلك، ونسي هؤلاء بأن مجتمعاتـِهم ستُبتلى وستُكوى بنار هذه المخططاتِ، وسيكون لها نصيبٌ وافرٌ من سلبيات ذلك، كما سآتي على ذكره في حينه.
وهكذا انخرطت المؤسسة في هذا الموضوع الراهنيِّ المهمّ لتبصير النساء بحقوقهن الحقّة، ومن يدافع عنها حقا وصدقا، سالكة منهج التوسط والاعتدال في التعامل مع قضايا المجتمع ومشكلاته، ممتثلين القاعدة الفقهية التي تقول بعدم جواز تأخير البيان عند وقت الحاجة إليه.
وبخصوص هذا الموضوع الذي نحن بصدده، فلا أظن أن أحدا من عقلاء العالم يستطيع إنكارَ التحديات الكبرى التي أصبح يطرحها في مجتمعنا، بل في العالم كلِّه، بدءاً من الأزمة العظيمة التي يعرفها موضوع الأخلاق، والاختلالات التي يعرفها موضوع تربية النشء، والذي تُشرف عليه المرأة في المقام الأول، حيث غدت العديد من النساء تتبرّم منه في أيام الناس هذه، ومؤسسة الزواج ذات القدسية التي أصبح يتقلص شأنها بين الشباب، حيث أصبحت رابطة الصداقة بين الذكر والأنثى هي البديل في الجيل الجديد، وهو ما أصبح يصطلح عليه في أيامنا هذه بالعلاقات الرضائية، التي يطالب البعض برفع التجريم عنها، بل إن العلاقة بين الذكر والذكر والأنثى بالأنثى هي التي أصبحت بديلا، وهي التي أصبح يروج لها للأسف الشديد، وهم بذلك يهددون أواصر الرحم أكثرَ مما هي مهددةٌ بالقطيعة، فقد حرم الله الزنى حتى لا تختلطَ الأنسابُ، وإذا اختلطت الأنساب ضاعت الأرحام.
ومن التحديات والتداعيات السلبية لهذا الموضوع أيضا، ارتفاعُ نسبة الأولاد اللقطاء، وأطفال الملاجئ والخيريات في المجتمع، وارتفاع نسبة العنوسة، وتزايد عدد حالات الطلاق، حيث وصلت إحصاءاتُها إلى حوالي ثمانمائة حالة طلاق كلَّ يوم، وانتشر الزواج السري، أو ما يعرف بزواج الفاتحة، وظهر ما يعرف بالأمهات العازبات، وضاعت بالتالي الكثيرُ من حقوق النساء، أضف إلى ذلك بروزَ الجرائم الجنسية الكثيرة؛ كالعنف والخطف والاغتصابات والأمراض، بل والعاهات والانتحارات، وغيرها من المآسي المرعبة، التي أصبحنا نسمع عنها في هذا الجانب باعتبارها شكلا من أشكال الفساد الاجتماعي، والتي اجتاحت مجتمعَنا، وستؤدي حتما – إذا لم يتمَّ تدارُكُ الأمر- إلى انهيار ودمار وتفكُّك الأسرة لا قدّرَ الله.
وهكذا سيجد القارئ الكريم بين دفتي هذا الكتاب العديدَ من القضايا التي ناقشها السادةُ العلماء والأكاديميون المشاركون في الندوة والمتصلة بقضايا المرأة، بدءا من مسألة القوّامة التي يطالبون أن تصبح بيد المرأة، وقد جعلها الله عز وجل بيد الرجل بوصفها لازما من لوازم الفطرة؛ ومن يثور على ذلك فإنما يثور على شرع الله تعالى وعلى الفطرة التي جبل الله عليها البشر، أو فيه خلل فطري؛ إذ من حكمة الله تعالى مراعاةُ خصائص كل جنس وطبيعةِ تكوينه والمهمةِ الاستخلافية المنوطة به رحمة منه وعدلا، وهذا التفاوت يدل على واقعية الإسلام في تحديد الحقوق والواجبات وتطبيقها، وهو مطلق العدل الإلهي.
ومن الإشكالات التي تثار بمناسبة الكلام حول هذا الموضوع، ما يتصل بالميراث الذي يطالب فيه هؤلاء بالتساوي في كل شيء وإلغاء نظام التعصيب، مُعربين عن جهل كبير بهذا الباب، وهم لا يعلمون بأن أكثرَ من ثلاثين حالةً تأخذ فيها المرأة مثلَ الرجل، أو أكثرَ منه، أو ترث هي دون أن يرث نظيرها الرجل، في مقابل أربعِ حالاتٍ محدودة ترث فيها المرأةُ نصفَ نصيب الرجل، فلا دخل إذن للذكورة والأنوثة من حيث ذاتُهما في تفاوت الأنصباء، وإنما العبرة بمدى حاجة الوارث، ونوع العلاقة السارية بينه وبين مورّثه، وللأسف الشديد، فالشيء الوحيد الذي يعلمونه في هذا الباب وأصبح مسلَّما به لديهم ولدى أتباعهم هو أن للذكر مثلَ حظ الانثيين!
ومن الإشكالات التي يطرحها الموضوع وتَنمُّ عن جهل واضح فاضح بأحكام التشريع الرباني وتفصيلاته، ما يتصل بالصلاحيات التي أُعطيت للرجل عند نشوز زوجه ولم تُعطَ للمرأة، واتهام الشارع الحكيم بالتحيز إلى الرجل في علاقة ما بينه وبين المرأة في ظل الحياة الزوجية، حيث وضعَ شِرعة الطلاق بيده، وأن التشريع الربانيَّ كبَّل المرأة بأثقال الحجاب، وأنه قلّل من شأنها في العديد من النصوص، وأنه أعطى الرجلَ حقّ التعدد ولم يُعطِه للمرأة، وأنه لم يساوِ بينهما في الشهادة وغيرها.
إن مسألة المساواة بين الذكر والأنثى ركّز عليها المتهافتون والمنتقدون للتشريع الربانيِّ بشكل كبير، كونُه ظلَم المرأة وفضَّل عليها الذكر في مسائل عدة، وهم بذلك نسوا بمناداتهم بالمساواة في كل شيء أنهم سيجعلون المرأة تلقائيا تُسهم وتشارك الرجلَ في مختلِف النفقات؛ وهذا مخالف لمقتضى التكريم الذي خص الله تعالى به النساءَ.
لو تأملوا قليلا لوجدوا أن العلاقة بين المرأة والرجل علاقةُ تكامل، وليست علاقةَ صراع ومصالحَ، كما هو الآن في فهومهم، لو تأملوا قليلا لوجدوا أن الله تعالى كرّم الإنسانية كلَّها، وأن ميزان التفاضل عنده هو التقوى، فالمرأة التي تتقي الله تعالى وتُؤدي ما عليها من الحقوق خيرٌ من الرجل الذي لا يتقي الله تعالى ولا يؤدي ما عليه من الحقوق، وقد سوّى الله سبحانه وتعالى بين الرجال والنساء في جميع مقامات الإيمان وسِهامه وشُعَبه، وفي الأوامر والنواهي، وفي الفرائض والمحرمات، وبلغ من تكريم الله تعالى للنساء أن خصهن بسورتين من سور القرآن الكريم، الأولى سورة النساء الطولَى، والثانية سورة النساء القصرى، وهي سورة الطلاق، ولم نجد في سور القرآن سورةً باسم الرجال بأحكام خاصة بهم،‌ وسماهن النبي صلى الله عليه وسلم المؤنساتِ الغالياتِ، يعني البناتِ.
وبالجملة، فالمتأمل في نمط تناول التشريع الرباني لحقوق المرأة يجده حريصا على إحاطتها بفائق العناية في جميع مراحل عمرها، وسائر أحوالها، فقد أوصى بالحفاظ على حياتها وهي جنين ترجو الحياة، ثم أكد على حسن تعليمها وتربيتها، وهي بنت وهي شابة ليُصانَ عِرضُها من عبث العابثين وأصحاب الشهوات، ثم رغّب في حفظ وُدّها وهي أخت، ثم أمر بأداء حقوقها وهي زوج، ثم أوجب بِرّها وطاعتَها وهي أم، وأقر بذلك أهليتها لأداء رسالة سامية في المجتمع، وإعطائها مكانة عالية لتجد ممن حولها التقدير والاحترامَ اللائقيْن بها، فكانت النتيجة أن صارت المرأة عنصرا فعالا يساير تطور المجتمع، ويسهم في تخليصه من كل السلبيات.
وهكذا تجد المرأةُ من التكريم في التشريع الرباني ما لا تجده المرأة المعاصرة في القوانين الوضعية والأنظمة الغربية والشرقية، وينبغي ألا تُصَدِّقَ النساء بالعديد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا أصل لها، والتي تَسِمُ المرأةَ بالدونية عن الرجل، وأن الرجلَ أفضلُ منها لمجرد رجولته.
فحقوق المرأة – بناءً على التشريع الرباني – حقوقٌ ثابتة لا يستطيع أحد مهما علا شأنُه في المجتمع أن ينالها بالتغيير والتبديل، وهي مغايرة تماما عن غيرها من الحقوق التي أرست مبادئَها القوانينُ الوضعيةُ بجمل من الفصول والقرارات.
وبالمناسبة، أقول صادقا للنساء والبنات المسلمات: لا تصدقْنَ ما يصلكُنَّ من هؤلاء المشوشين والمشوشات وأبواق الاسترزاق المستخدِمة لموضوع المرأة، فيكفي لمعرفة نتائجِ ما يدعون إليه أن تَطّلعوا على ما حصل من تصدُّع وويْلات في المجتمعات الغربية، فالمجتمعات الغربية اليوم تندُب حظّها التعيسَ، لانهيار الأسرة وتشتُّت الأبناء، فالأم بسبب تعاليمهم الحقوقيةِ كما يرونها ويروجونها هجرت بيتها، وأهملت طفلها، وتركته إلى من لا يُحسنُ تربيتَه، قالت إيدا إلين: “أنّ سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسرّ كثرة الجرائم في المجتمع؛ هو أن الزوجة تركت بيتها؛ لتضاعف دخْلَ الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق” .
ووصفت ريان فوت هذه الحالة التي وصلتها المرأةُ الغربية بقولها: “المرأة في الديموقراطيات الغربية مواطِنةٌ من الدرجة الثانية، رغم كلّ التقدّم الذي تحقق” .
فلن تجدنَ أيَّ نظامٍ في هذا العالم أو قانونٍ تمكّن من الحفاظ على كرامة المرأة، وصيانة حقوقها، وأثبت لها مصالحها، ولبى لها احتياجاتِها في جميع الميادين الحياتية؛ اجتماعية كانت أو ثقافية أو اقتصادية، أو سياسية مثل التشريع الرباني.
فبدل أن يقوم هؤلاء المشوِّشون باتهام التشريع الرباني بالتعسف والظلم في حق المرأة، كان عليهم اتهامُ أنفسهم بالجهل وسوء الإدراك لتعاليمه، فكل هذه التداعيات السلبية المشار إلى بعضها آنفا، إنما حلت بمختلف المجتمعات لجهلها بتعاليم التشريع الرباني ولجريها مع العادات والتقاليد والتصورات الخاطئة لتعاليمه، كما يروجها الغربيون وأتباعُهم من المتغربين.
ثم إنه قبل هذا وذاك، تبقى بلدُنا المملكةُ المغربية الشريفة بلدا مسلما، أقبل على الإسلام على اقتناع، ولم يدخل في الإسلام إرغاما وإجبارا، آمن أهلُها بأنه لا يوحّدهم إلا الإسلام، ولا يُزيل ما بهم من أحقاد ومن تمزُّق وشقاق إلا الإسلام، فاعتصموا بحبل الإسلام، وأن مولانا أميرَ المؤمنين جلالةَ الملك محمدا السادسَ نصره الله قال في خطاباته المؤطرةِ لتعديل مدونة الأسرة سنةَ 2004م، وسنةَ 2022م: “بصفتي أميرا للمؤمنين لا أُحل حراما، ولا أحرم حلالا”، فلذلكم، فخير الأمة في التشبُّث بهُويتها، والإنسان حينما يفقد هُويتَه تضيع حقيقتُه كما تضيعُ حقوقه.
وهكذا أصبح لزاما علينا أن ننتبهَ، وأن نستفيقَ ونعمل بجد؛ لتساير أحكامُ الأسرة هذا التطورَ الحاصل في المجتمع لمجابهة مختلِف المخاطر المحدِقة، بدءًا بسَنّ الإلزام في مسألة تعليم وتكوين البنات، وتكوين المقبلين على الزواج بشكل عام، في مجال الإرشاد الأسري وإصلاح ذات البين، ومأسَسة الوساطة الأسرية، وفرضِ اللجوء إليها قبل البتّ في حالات الطلاق، والإكثار من حصص التوعية والتحسيس في كل هذه الجوانب، وغيرها من الجوانب ذات الصلة؛ لأن عند التأمل في عناية الإسلام بالمرأة كما مر، تجده لم يأت اعتباطا، وإنما لكونها بانيةَ اللبنات الأولى للمجتمع، فهي أساس المجتمع إذن؛ وصانعةُ أجياله، وفي هذا يقول العلامة النورسي رحمه الله: “إن أولَ أستاذ للإنسان وأكثرَ من يؤثر فيه تعليما إنما هو والدته”، وقال الشاعر:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتَّها أعدَدت شعْبا طيبَ الأعراق.
وبذلك تتأكد فعاليةُ المرأة وتأثيراتها الإيجابيةُ عند إشراكها في مختلف المجالات، وهكذا نؤكد على ضرورة إدماجها في خطة الإصلاح الشامل، باعتبارها فاعلةً ومؤثرة ستُفيد في إمداد المساعي الإصلاحية بالدعم المطلوب، فليُنظَر – على سبيل المثال – عملُها الرائع الرائد في باب محو الأمية في صفوف النساء وعملها في تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم الشرع، وتكوين الأطفال، ومختلف أعمال التأطير الديني والإرشاد والنصح اليومي لفائدة النساء، وعمق الإصلاح الذي أحدثته المرأة العالمة والمرشدة في البيوتات المغربية مما هو تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى، فقد أسهمت الفاعلاتُ الدينياتُ إسهاماتٍ كبيرةً في ترشيد الخطاب الديني، وترسيخ قيم التعايش والنهوض بوضع المرأة بشكل عام…، ويظهر من ذلك أن المرأة عندما تؤطَّر بالخير فهي قادرة على التأثير في أبنائها وإخوانها ومجتمعها عامة، بعكس المرأة الجاهلة، قال جلالة الملك محمد السادس نصره الله في رسالته السامية الموجَّهة للمشاركين في القمة العالمية الثانية لمبادرة “نساء في افريقيا”، والتي احتضنتها مدينة مراكش بتاريخ 27 شتنبر 2018م مؤكدا على أهمية دور المرأة في تنمية المجتمع: “لا يمكن لأي بلد، أو أي اقتصاد، أو مقاولة، أو أي مجتمع، أن يرفع تحدياتِ العصر، أو يمارس استثمارَ كل الطاقات التي يزخر بها، بمَعزِل عن دور المرأة”.
ومما ينبغي التأكيدُ عليه في هذا المقام، التشديدُ على إلزامية التعليم، لأن لجهل المرأة على وجه الخصوص، أثراً بالغاً في تأخّر المجتمعات؛ فهي مهيّئة بفطرتها لتكون مستقبلا زوجةً وأمّا، ومن ثَم كان من المفروض أن تتعلّم ما يفيدها في حياتها المستقبلية، وهذا يتطلب أن تزوّد المناهجُ الدراسية بقسط أكبر من أصول التربية المنزلية؛ لتكتسبَ المرأة كاملَ الخبرات المساعدةِ على النجاح في أداء مهامها في الحياة، ومن ثَم نجاحُ الأسرة ونجاحُ المجتمع كلِّه، يقول العلامة علال الفاسي رحمه الله: “المرأة عماد الأسرة، وكل بناء لا يستقيم عماده فهو إلى الانهيار” .
وسيجد القارئ الكريم أيضا بين ثنايا هذا الكتاب أسماءَ العديد من العلماء الذين اهتموا بموضوع المرأة وألفوا فيه تآليفَ قيمة، يستحسن الرجوع إليها لأهميتها، كما سيجد أسماءَ العديد من النساء اللواتي نفعنَ المجتمعَ المسلم بمختلِف أنواع الإفادت، هؤلاء اللواتي كان لهنّ الحظُّ الأوفر من المعرفة والثقافة الدينية، والأثرُ النافع البالغ في نشر الخير، الذي خلّدته صفحاتُ التاريخ الناصعةُ، فكُتب التراجم – بفضل الله تعالى – مليئة وحافلة بأعلام المسلمات اللاتي اشتهرنَ في مختلِف الفنون والعلوم وغيرها، وبذلك فإني أقترح على الباحثين والباحثات إيلاءَ جهود المرأة مزيدَ اهتمام بالبحث والتنقيب والتصنيف، إبرازا لجهود المرأة المسلمة وتألقها في شتى المجالات، فإن وراءَ كل عظيم امرأةً.
وقبل أن أختم، لابد أن أنوّهَ بالعناية الشاملة والموصولة لمولانا أمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس – نصره الله وأيده – بكل القضايا المتعلقة بالمرأة، إيمانا من جلالته بأن العناية بالمرأة جزء لا يتجزأ من التنمية الشاملة لبناء مجتمع ديمقراطيٍّ حديث، وأنها تعدّ أقوى وأهمَّ حصن يقي المجتمعَ من أي سوء قد يتسرب إليه، ابتداءً من إشراف جلالته الفعلي على إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، التي كرست الاستثناء المغربي، حيث جمعت بين تعاليم التشريع الرباني وحقوق الإنسان، وحققت للمرأة المغربية مكتسباتٍ مهمةً ارتقت بصورتها ومكانتها إقليميا ودوليا، مرورا بإشراكها في مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب، وما كان له من مكاسبَ عديدةٍ للمجتمع والوطن، عِلاوةً على العمل على تعزيز الحقوق والخِدْمات الاجتماعية والاقتصادية للمرأة، من خلال إنشاء وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، وما تلاه من استفادة المرأة من قانون الحماية الاجتماعية، كلُّ ذلك – وغيره كثير – عمِل على تقوية مؤسسة الأسرة وتماسكِها، وقد تبوّأ مولانا أمير المؤمنين – بحق – صدارة كل المبادرات الداعمة لحقوق النساء بالمغرب.
ختاما، إن هذا الذي اختصرتُه اختصارا في هذه المقدمةِ، هو ما أفاض فيه السادةُ العلماء والشيوخ والأساتذة المشاركون في أعمال هذه الندوةِ العلمية الدولية، وناقشوه أجملَ مناقشة، وبيّنوه أحسنَ بيان، وفصَّلوه قدرَ الإمكان.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعَ بهذا الكتابِ كلَّ مطالع لأعمال هذه الندوةِ المباركة، المبثوثة طيَّ هذا السفر المبارك، الذي أرجو أن يفيَ بالغرض والمقصود، وقد حرصتُ على جمع كل ما تيسر لي جمعُه من الصور الموثِّقة للندوة أيامَ تنظيمها، ووضعت ذلك مع الملاحق الختامية.
ولا أنسى التعبيرَ عن جزيل شكري وعظيم امتناني وعرفاني لبعض أعضاء مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام، الذين استفرغوا وسعَهم ولم يَضَنُّوا بجهدهم ليخرج الكتاب في هذه الحُلة، وأخص بالذكر فضيلة الدكتور الحسن بقشيش، والطالب الباحث عبد الإله بصير، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه عبد المغيث بن الشيخ سيدي محمد المصطفى بصير.
برشيد: في يوم الخميس 20 من ذي الحجة 1445هـ، الموافق لـ 27 من يونيه 2024م.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *