مقتطفات من سير الربانيين
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.
وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله جل جلاله في كتابه الكريم:(من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، كنت وعدتكم في الخطبة الماضية أن أواصل الحديث عن بعض سير الربانيين من سلفنا الصالح رحمة الله عليهم، والوقوف بشكل خاص عند مقتطفات من حياتهم علنا نأخذ ولو نزرا يسيرا من أخلاقهم وصفاتهم ومميزات شخصيتهم مما يصلح للتأسي والاقتداء، لأن في الاطلاع عليها والتخلق بأخلاقها عظيم المثل في اتخاذ الأسوة والقدوة، هذا الاطلاع بقصد الاقتداء الذي نحن اليوم في أمس الحاجة إليه، وذلك نظرا لغفلة الكثير من الناس عن هذا الجانب، حيث غاب اتخاذ القدوة الحسنة وجعلها مثلا أعلى للاقتداء، وافتقدنا في مجتمعنا الكثير من القيم والأخلاق التي تخلق بها الربانيون من سلفنا، فنحن اليوم أكثر من أي وقت مضى في حاجة للتعرف على أخلاق سلفنا وقيمهم التي تشبثوا بها لنستطيع مواجهة مختلف الإكراهات التي غدت تظهر كل يوم وليلة.
أيها الإخوة الكرام، وقبل أن أطلعكم على بعض مااخترته لكم من سير الربانيين، أحب أن أتوقف بكم عند معنى الآية التي افتتحنا بها الخطبة، وهي قوله تعالى:(من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، فعندما تسمعون كلمة رِجَالٌ في القرآن، فاعلموا أن المقام مقام جدٍّ وثبات على الحق، وفخر بعزائم صلْبة لا تلين، وقلوب رسخ فيها الإيمان رسوخ الجبال، وهؤلاء الرجال وَفَّوا العهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم، بأنْ يبلُوا في سبيل نصرة الإسلام البلاء الحسن قولا وفعلا كما ذكر في سبب نزول الآية، وقوله تعالى:(فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِر) قضى نحبه: أي أدَّى العهد ومات، والنحب في الأصل هو النذر، فالمراد: أدى ما نذره، أو ما عاهد الله عليه، ثم اسْتُعمِلَت النحب بمعنى الموت، لكن، ما العلاقة بين النذر والموت؟ قال العلماء: المعنى إذا نذرتَ لله فاجعل الحياةَ ثمناً للوفاء بهذا النذر، فالمؤمن حين يستصحب مسألة الموت ويستقرئها يرى أن جميع الخَلْق يموتون من لُدن آدم عليه السلام حتى الآن، وقد ورد في الأثر: “ما رأيتُ يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت”، ومع أننا نرى الموت لا يُبقى على أحد فينا إلا أن كل إنسان في نفسه يتصور أنه لن يموت، والمؤمن ينبغي أن يكون اعتقادة في الموت، كما قال بعض العارفين: الموت سهم أُرسِل إليك بالفعل، وعمرك بقدر سفره إليك، وقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ..) أي: ينتظر الوفاء بعهده مع الله، وكأن الله تعالى يقول: الخير فيكم يا أمة محمد باقٍ إلى يوم القيامة، نعم أيها الإخوة الكرام: الخير فيكم باق إلى يوم القيامة، (وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً) معنى التبديل هنا أي ما تخاذلوا في شيء عاهدوا الله عليه ونذروه لله.
أيها الإخوة الكرام، من هؤلاء الربانيين الذين اخترت لكم الاطلاع على شيء من حياتهم، الصحابي الجليل سيدنا صهيب بن سنان الرومي الذي كان واحدا من المستضعفين الذين يعذبون في الله، فما غير ولا بدل بل صدق ماعاهد الله عليه وصبر وصابر، وقد هاجر إلى المدينة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر من هاجر، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، ومن كريم مواقفه في البذل والشجاعة في مواجهة الباطل وأهله ما روي أنه لما هاجر، تبعه نفر من المشركين، فسئل فقال: يامعشر قريش، إني من أرماكم، ولا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي، فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه، فرضوا فعاهدهم ودلهم، فرجعوا فأخذوا ماله، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “يا أبا يحيى ربح البيع، ثلاثا، وفي رواية ربح البيع أبا يحيى، ونزل قوله عز وجل: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)، لقد كان رحمه الله شجاعا صادق التوكل حين لم يخفه تهديد هؤلاء النفر من المشركين ووعيدهم، بل هددهم بأن يستنفد مافي وسعه في قتالهم، وكان شجاعا صادق التوكل أيضا حين نزل عن كل ما يملك من المال في سبيل أن يسلم له دينه، وتتم له هجرته، وفي غمرة ذلك كله كان مثال الوفاء حين عاهدهم ودلهم- وهم المشركون- فرجعوا بكل جشعهم وأخذوا ماله، ولكن الله الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة، أنزل فيه وفي أمثاله قرآنا يتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فرسول الله يثني على صنيع صهيب فيما بذل من الدنيا ابتغاء الآخرة، وطلبا لرضوان الله، الذي هو الرضوان يزف إليه تلك البشرى العظيمة فيقول له:”يا أبا يحيى ربح البيع” ثلاثا، فليسأل كل واحد منا نفسه، ماذا فعل أو بالأحرى ماذا يفعل كي يسلم له دينه؟ وماذا قدمنا وماذا نقدم كي ننصر دين الله في أنفسنا وفي أهلينا وفي مجتمعنا؟ بل إننا نتعجب كل العجب أن نجد في مجتمعنا من يرضى ببيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
اسمعوا ماذا قال سيدنا صهيب في آخر أيام حياته، قال رضي الله عنه:”لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يسير سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو قط حتى توفي”، فياسبحان الله ياله من وفاء وإخلاص وتضحية جسيمة يقدمها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللإسلام وللمسلمين.
أيها الإخوة الكرام، ومن الربانيين الكبار الصحابي الجليل عمير بن سعد الملقب بنسيج وحده القليل منا من يعرفه، ذكر في سيرته رحمه الله أيام كان أحد ولاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حمص، أنه مكث حولا لا يأتي خبره عمر، فقال عمر لكاتبه:”اكتب إلى عمير: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين”.
وأخذ عمير جرابه فجعل فيه زاده وقصعته وعلق إداوته وأخذ عنزته، ثم أقبل يمشي من حمص حتى دخل المدينة، قال: فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه وطال شعره، فدخل على عمر وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال عمر: ما شأنك؟ قال عمير: ماترى من شأني: ألست تراني صحيح البدن، معي الدنيا أجرها بقرنها، قال: وما معك؟ فظن عمر أنه جاء بمال، فقال: معي جرابي اجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي، قال عمر: فجئت تمشي؟ قال: نعم قال: أما كان لك أحد يتبرع لك بدابة تركبها؟ قال: ما فعلوا وما سألتهم ذلك، فقال عمر: بئس المسلمون خرجت من عندهم، فقال عمير: اتق الله ياعمر قد نهاك الله عن الغيبة، وقد رأيتهم يصلون صلاة الغداة، قال عمر: فأين بعثتك؟ وأي شيء صنعت؟ قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سبحان الله، فقال عمير: أما لولا أني أخشى أن أغمك ما أخبرتك، بعثني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها، فوليتهم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به، قال: فما جئتنا بشيء، قال: لا، قال عمر: جددوا لعمير عهدا، قال: لا عملت لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، قلت لنصراني: أخزاك الله… وفي مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور: أن عمر رضي لله عنه عندما بلغته وفاة عمير شق ذلك عليه وترحم عليه، فخرج يمشي ومعه المشاؤون إلى بقيع الغرقد، فقال لأصحابه: ليتمن كل رجل منكم أمنية، فقال رجل: وددت يا أمير المؤمنين – أن لي مالا فأعتق لوجه الله كذا وكذا، وقال آخر: وددت لو أن عندي مالا فأنفق في سبيل الله، وقال آخر: وددت لو أن لي قوة فأمتح بدلو زمزم لحجاج بيت الله، فقال عمر: وددت لو أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين.
فما أحوجنا اليوم إلى الرجال الذين يقومون بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم كما ينبغي، وما أحوجنا لأمثال هؤلاء الرجال الذين يقدرون المسؤوليات ويتورعون لله ويؤدونها حق أدائها، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، أحب في هذه الخاتمة أن أنتقل بكم إلى واحد من التابعين من ربانيي هذه الأمة، وهو الفضيل بن عياض، يقول فيه ابراهيم ابن الأشعث: ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وأخذه وإعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره” يعني الفضيل، وعنه أيضا قال: “كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي، حتى لكأنه يودع أصحابه، ذاهبا إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس، فكأنه بين الموتى، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها، ومن أقواله: “المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة”. وقال أيضا خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء والرغبة في الدنيا، وطول الأمل”، يقول أبو جعفر الحذاء: سمعت فضيل بن عياض يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن”،
فهؤلاء هم الربانيون أيها الإخوة والأخوات، اطلعوا على سيرهم، واحرصوا على ذلك، واقتدوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم، فلا ينفع في عالم اليوم إلا التشبث بأخلاق وقيم هؤلاء، فاللائحة طويلة: اطلعوا على سيرة أبي الدرداء، عثمان بن مظعون، أبو إدريس الخولاني، سعيد بن المسيب، طاووس بن كيسان، عمرو بن عتبة، عبد الله بن المبارك، بشر الحافي، عمر بن عبد العزيز، الحسن البصري، وغيرهم كثير كثير، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء…