معنى تحكيم رسول الله والتسليم له
معنى تحكيم رسول الله والتسليم له
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:” فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”.
في خطبة هذا اليوم المبارك سنتوقف عند بعض المعاني اللطيفة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة، واسمحوا لي في البداية أن أتوقف عند سبب نزولها، لأنه سيفك غالبية معانيها، نزلت هذه الآية في الصحابي الجليل سيدنا الزبير بن العوام مع أحد الأنصار رضي الله عنهما، وكانت حدثت بينهما خصومة في سقي بستان؛ واحتكموا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام للزبير: (اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك). فقال الخصم: أراك تحابي ابن عمتك؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للزبير في الحديث المتفق عليه: “اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر”، ونزل إثر هذه النازلة قوله تعالى:” فلا وربك لا يؤمنون”، الآية.
وقوله عز وجل:” فلا وربك لايومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم”، يتضمن قسمه تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا، ولهذا قال:” ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما”، أي إذا حكموك ينبغي أن يطيعوك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون لك في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، تماما كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:” والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”.
هذا وإن في اختيار الحق سبحانه وتعالى لأعنف ساعات الحرج في النفس البشرية، وهي ساعة الخصومة التي تولد الغضب والميل عن الحق، ماينبغي أن ينتبه له كل مسلم، وأنه وإن كان يعيش هذه الحالة فإنه ينبغي أن يرضخ لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، إن للحق سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء على ما يشاء، ولكننا نحن الخلق لا نقسم إلا بالله، فنجده عز وجل في القرآن الكريم أقسم بالجبل في قوله:” وَٱلطُّورِ”، وأقسم بالرياح في قوله:”وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً، وأقسم بالنبات: في قوله:”وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ”، وأقسم بالملائكة في قوله:”وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا”، ولكننا إذا نظرنا إلى الإنس فلن نجده أقسم بأحد من بني الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أقسم بحياته فقال:”لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ”، وأقسم الله كذلك بنفسه فقال: “فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ”، وقسمه بالسموات والأرض التي قال عنها:”لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ”، يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي ذلكم تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأي تكريم، ودليل على أن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية رفيعة، فكأنه يقول لنا: إياكم أن تظنوا أنه حين قلت: “لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس”، أن سيدنا محمداً قد دخل في الناس، إنّه سبحانه يوضح ويقول لنا: لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، فكأنه يقول له: فوربك الذي خلقك، والذي سواك، والذي رباك، والذي أهَّلَكَ لأن تكون خير خلق الله، وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول لنا:” فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ”، أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول له: لا نحكم محمداً ومنهجَه في حياتنا؟
إذن عباد الله، لا بد أن نستقبل الإيمان بالله تعالى بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو خارج عن الملة كما نص على ذلك العلماء، فهل تدرون معنى أن نتهم النبي صلى الله عليه وسلم في شيء؟، وهل تدرون معنى أن يصلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فنتهاون ونتكاسل في القيام به؟ وهل تدرون معنى أن نستدرك على شريعة الله كما يفعل العديد من المعجبين بآرائهم من المتأخرين اليوم؟
هذا شيء، وإن مما نستفيده من الآية أيضا أنه عليه السلام سلك مع الصحابي الجليل سيدنا الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: (اسق يا زبير ) لقربه من الماء (ثم أرسل الماء إلى جارك). أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك. فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب؛ لأنه كان يريد ألا يمسك الزبير الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة المهلكة فقال: أتحكم له علي لأجل أنه ابن عمتك؟ فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له، وفي هذا الحديث أيضا إرشاد القاضي إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما فيه مرضاته ومرضاة رسوله أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله، بقي أن نتوقف عند معنى قوله تعالى :”فيما شجر بينهم” الآية، فكلمة “شجر” مأخوذة من الشجر الذي نعرفه. وهو من النباتات التي تكبر فيلتصق بعضها ببعض فتتشابك، وتتداخل فروع بعضها مع بعض، بحيث لا يستطيع الناظر أن يقول: إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول: إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر يختلط، وبذلك فمعنى :”شجر بينهم”، أي قام نزاع واختلاط في أمر متساوي، تماما كما يحدث بين الناس المتساوين، حيث يجب إن اختلطوا وتنازعوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم، ويحكم بينهم بالعدل أو بما هو خير من العدل وهو الفضل، فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع إذن، أمَّا إذا حدث الشجار فلا بد من الفصل، ومن الذي يفصل إذن؟. إنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم قول الحق:” فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ”.
ختاما عباد الله، إن الإيمان بالله ليس قولة تقال فحسب، وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول لا إله إلا الله وتشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، قولة تقتضي منك أن تُحكِم حركة حياتك على ضوء هذا القول، فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه. فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ بمنهج الإسلام حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ يارسول الله، فهذا هو التطبيق لـــ: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ولا يصح أن يحكموك صورياً وشكليا، بل لا بدّ أن يحكموك برضا في التحكيم، ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي ضيقاً مِّمَّا قَضَيْتَ، فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه، ولا تضيقوا ذرعا به، بل ينبغي أن تسَلِّمُواْ تَسْلِيماً أي تذْعِنُوا إذعاناً.
والتسليم كما بينه أحد العلماء الربانيين في المثال التالي، هو الحالة التي تكون عليها مثلا عندما تقصد طبيب الأسنان، وقد ألمت بك إحدى أسنانك، حيث يأمرك بالاسترخاء وفتح الفم فتفعل، وأنت تعلم بأنه سيؤلمك، ولكنك تعلم بأن ذلك كله في مصلحتك، فكذلكم ينبغي أن يكون تسليم المسلم مع شرع الله ورسوله، والحمد لله رب العالمين.